
الشرق الأقصى
السَّبتْ في 2 آب 1969
في يَوْمِ سَفَري استَيْقَظْتُ مَريضاً
فورَ يقظتي صباحَ اليوم، بادرتُ إلى ترتيب حقيبَتيْ سفري، مع أنني استيقظتُ وأنا شاعرٌ بأنّني مريضٌ، إذْ كنتُ أُحسُّ بدُوارٍ شديد يتملّكني تملّكاً تامّاً. كنتُ أرى اللوحاتِ الزيتيّةِ تدورُ، والغرفةُ تنطوي جدرانُها على نفسِها، وكلُّ أثاثِها يعلو ويهبِطُ، فاستعذتُ بالله من شرِّ الشيطانِ الرجيم، وقلتُ في نفسي: تُرى، هل أستطيعُ السفَر وأنا بهذهِ الحالةِ الفظيعةِ! وسرعانَ ما انتابني الغَثَيان، فاستعنتُ عليه بكوبٍ من عصير الليمون.
وفي تمامِ الساعةِ السابعةِ والنصف، وصلَ الدكتورُ جورج خبصا رفيقُ رحلتي حولَ العالم. وعندما علمَ ما بي، قال لي: لنعدِلْ عن السَّفَر، لأنك بهذه الحالةِ لا يمكنكَ أن تتحمَّل مشاقّ الرحلة. فأجبتُه: سأسافرُ مهمَا كلَّفني الأمر، ولنْ أَعدلَ عن هذهِ الرحلةِ، خصوصاً أنَّ تذاكر البان أميركان PAN AMERCAN قد أُنْجِزَتْ، وهي بحوزتي، وقد بلغَتْ كلفةُ السفرِ بالطائراتِ ذهاباً وإياباً ثلاثة آلاف دولار، أيْ نحو عشرةَ آلافِ ليرةٍ لبنانيّةٍ. وأسرعَ بعضُ الإخوةِ فدلّكوا لي جسمي بالعطورِ، وتنشَّقتُ منها مراراً وتكراراً، متناولاً بعضَ المُنْعِشات، حتى شعرتُ بأنَّ حالتي قد تحسَّنت ولله الحمد!
وقد تقاطرَ الإخوةُ والأخَواتُ الذي عرفوا أنني سأسافرُ مساءَ اليوم، منْ أجلِ توديعي. وقدْ عَدَدْتُهم، فكانوا ستةً وأربعين شخصاً بينَ رجلٍ وامرأة. وسرعانَ ما أَزفَ الوقتُ، إذ أشارتْ الساعةُ إلى الخامسةِ والنصفِ مساءً، فنزلتُ للحالِ، يرافقُني رهطٌ من الإخوةِ والأخواتِ، قاصدينَ المطارَ.
رحلة الشرق الأقصى

رحلة أميركا الشماليَّة

رحلة أوروبّا























في مَطَارِ بيروت
بَلَغْنا المطارَ في الساعةِ السادسة إلاَّ رُبْعاً مساءً. وقد استقلَّيتُ سيارةَ الأخِ الكريمِ فريد فرنسيس، ورافقني بها ليلى إبنةُ شقيقتي أنتوانِت، وإِلين ضاهر، والأخُ الحبيبُ الدكتور فريد أبو سليمان. أما الدكتور خبصا فقدْ استقلَّ سيّارة الأخ هادي حجَّار، ورافَقَتْهُ زينا حدّاد وشكري وجورج شكُّور. واستقلَّ سيارة إيليَّا حجّار الأستاذ الأديب أسعد علي وغازي براكس. وكذلك واكبْنَا الأخَ العزيزَ سليم قمبرجي وشقيقه عليّ. وفي سيّارةِ الأخ سِرْج رافقَتْنا السيّدة رباب المقدّم وابنتها سهيَّلا…. وغيرهم من الأخوة والأخوات الداهشيّين عددٌ كبير.
وعندما بَلَغَ رَتْلُ السيّارات محطَّة الطيران، ترجَّلنا جميعاً. وبعدَ أن قبَّلتُ كُلاَّ منهم قبلة الوداع، غادرتُهم مع أخي الدكتور خبصا، ونزلنَا إلى صالونِ الإنتظارِ قبلَ أنْ نستقلَّ الطائرة الجبَّارة الجاثمة على أرضِ المطارِ.
ودَوَّتِ المُحَركَات
ثمَّ شَقّتْ أجوازَ الفَضَاء
في تمامِ الساعةِ السابعةِ إلاّ رُبعاً منْ مساءِ 2-8-1969، دوَّتْ مُحرِّكاتُ الطائرةِ الجبَّّارةِ بوينغ 707، ثمَّ درَجَتْ على أرضِ المطارِ، وأقلعَتْ وهي ترعدُ بجبروتٍ وتهدرُ كالطاغوت.
وأخذت تعلو رويداً رويداً حتَّى بلغَ ارتفاعُها اثني عشرَ ألفَ متر. نظرتُ من عَلُ إلى أسفل، فماذا رأيتُ؟
شاهدتُ بساطاً ممتدّاً لا نهايةَ له: بساطاً نسجَتْهُ يَدُ الطبيعة من الغيوم المتّخِذة لها شتّى الأشكال والرسوم. تالله! ما أَروعَ ما أُشاهدُ، وما أروعَ ما أُشاهد، وما أَوقعَهُ في النفسِ! ثمَّ أليسَ عجيباً أن يبلغَ التقدّمُ العلميّ والميكانيكي هذهَ الدرجةَ منَ العظمةِ؟! وأيّةَ عظمةٍ تعلو عليها؟!
مئتا مسافرٍ ومسافرةٍ يجلسُ كلٌّ منْهُم على مقعدِهِ المُريح، وأمامَهُ فسحهٌ رحبةٌ يستطيعُ أن يضَعَ فيها حقيبةَ سفره. كما بإمكانِهِ أن يفتحَ أمامَهُ طاولةًٌ صغيرةٌ يُخرجُها من ظهرِ مقعدِ زميلهِ الماثلِ أمَامَه- وكلُّ مُسافرٍ يستطيعُ عملَ هذا- فيضعُ عليهَا كتاباً ليطالعَهُ، وفي ساعاتِ الأكلِ، يتناولُ عليها طعامَه براحةٍ تامَّةٍ لا تشوبُها أيَّةُ منغِّصات مهما كانتْ طفيفة. والأغربُ من كلِّ هذا، ورغمَ ارتفاعِ الطائرةِ العظيمِ، فإنّ أيًّا منّا لم يشعرْ بأيّ ارتجاج، حتَّى الطعامَ وأكوابَ الماءِ لا تتحرّكُ على الإطلاق لشدّةِ الإتقانِ البادي للعيان.
حقّاً إنَّ الإنسانَ قدْ بَلَغَ الشأْوَ الأعلى في مضمارِ العلومِ والاختراعاتِ العظيمةِ التِي تعودُ جميعُها بالنفعِ العميمِ للجنسِ البشريّ.
الوُصُولُ إلى طَهْران
وفي تمامِ الساعةِ الحاديةَ عشرةَ إلاَّ رُبعاً ليلاً- أي بعدَ أربعِ ساعاتٍ طَيَرانٍ متواصلٍ- وصلنَا إلى طهران. فهبَطَتْ بنا الطائرةُ، ومكثتُ ساعةً وربعاً في هذهِ المدينةِ، وهكذا أُتيحَ لي أن أزورَ، في هذا الليل، المحزنِ الموجودِ ضمنَ المطارِ. وقد ابتعتُ منه أوانيَ من الميناءِ الجميلِ الزخارفَ وذي البراعةِ في نقوشهِ الفنِّيةِ التي تأخذُ بالألبابِ.
وعندما انتهتْ الطائرةُ بنَا إلى طهران، كانتْ الساعةُ الحاديةَ عشرةَ إلاَّ ربعاً، بينمَا كانتْ في بيروتَ التاسعةَ والرُبعِ ليلاً، لأنَّ الفرقَ هو ساعةٌ ونصفٌ بينَ بيروت وطهران.
ثمَّ أقلعتْ الطائرةُ بنَا في تمامِ الساعةِ الثانيةَ عشرةَ منتصفِ الليل، بتوقيتِ طهران، بينمَا كانتْ الساعةُ في بيروت، حينذاك، العاشرةَ والنصفِ ليلاً. وبعدَ طيرانٍ متواصلٍ ثلاثَ ساعاتٍ كاملةٍ، بلغْنَا مدينةَ نيودلهي في الهند، وكانتْ الساعةُ، آنذاك، فيها الخامسةَ صباحاً، بينمَا كانتْ في بيروتَ الواحدةَ والنصف.
وفورَ خروجي منَ الطائرة، شعرتُ بموجة حرٍّ شديدة تلفحُني، كما كانتْ الأمطارُ تتساقطُ رذاذاً. وقد أسرعتُ إلى صالونِ المطارِ أُنقِّلُ بَصَري في المسافرين سواءَ القادمين منهُم أم الذاهبين إلى أوطانِهِم أو إلى رحلاتِهِم في أرجاءِ كُرَتِنا الأرضيِّة. وبعد مُضيّ ساعة كاملة، عدتُ فاستقلَّيتُ الطائرة، فأقلعَتْ بنا في تمامِ السادسةِ صباحاً، بتوقيت نيودلهي، الثانية والنصف بعدَ منتصفِ الليلِ بتوقيتِ بيروت. واستمرَّتْ الطائرةُ الجبّارةُ في سَيْرها الهائل، قاطعةً في الساعةِ نحوَ 950 كيلو متراً، حتى وصلتُ أخيراً، وبعد طيرانِ أربعِ ساعاتٍ كاملةٍ، إلى مدينةِ بانكوك. وحالَ خروجي من الطائرةِ، نظرتُ إلى ساعةِ المطارِ في بانكوك فإذا بِهَا تُشيرُ إلى الحاديةَ عشرةَ والنصفِ صباحاً، لأنَّ الفرقَ بين المدينتين هو خمسُ ساعاتٍ كاملةٍ.
إلى الفُنْدُق
بعدَ وَعْثاءِ السّفَر
بعدَ الإجراءَاتِ القانونيِّة من قِبَلِ السُّلُطاتِ الرسميِّة في المطار، والتأشيرِ على جوازَيْ سَفَرنا، استقلَّينا سيّارة أوصَلَتْنا إلى فندقِ سيام أنتركونتنتال. وقدْ كنتُ منهوكَ القوى لسَهري المتواصلِ طوالَ ساعاتِ الطيران، أي إحدى عشرة ساعةٍ كاملة. وللحالِ استغرقتُ أنا والدكتور خبصا في نومٍ عميقٍ مدّةَ ساعتين كاملتين، ثمَّ استيقظنا وصَمَّمْنا على أن نقومَ بجولةٍ استطلاعيّةٍ في مدينةِ بانكوك التِي نزورُها للمرَّةِ الأولى.
الأحد في 3 آب 1969
في شَوارع مَدِينَة بَانْكُوك
نزلتُ برفقةِ الدكتور خبصا في تمامِ الساعةِ الثانيةَِ والنصفِ منْ بعدِ ظهرِ يومِ الأحد، وتجَوَّلنا في أرجاءِ بانكوك. فإذا شوارعُها رحبةٌ والسيرُ فيها مزدحِمٌ، والسيَّاراتُ تملأُ الشوارعَ والأزقّةَ، وتكتظُّ بها المنعطفات. أمَّا أبنيتُها ففخمةُ وضخمة.
ونوافيرُ المياهِ تجدُها في عدَّةِ أحياء، وهي ينابيعٌ عظيمةٌ تنبثقُ منها المياهُ لترطّبَ الجوَّ الشديدَ القيظ، إذْ إنَّ مدينة بانكوك تبلغُ الحرارةُ فيها 40 درجة مئويَّة, وفي بعضِ الأحيانِ تزيدُ عنْ هذا الحدِّ المرتفع.
وأيمُ الحقِّ، لقد تضايقنا لهذا الحرِّ غيرِ المعهودِ عندَناَ، وضاقتْ أنفاسُنا، لِذا أسرعْنَا بإيقاف تاكسي، وطلبْنَا منهُ أن يقومَ بجولةٍ في أرجاءِ المدينة لنراها ونكوّنَ عنهَا فكرةً صحيحة.
أمّا السائقُ فقد أقلَّنا إلى حديقةٍ واسعةِ الأرجاء يملكُها شخصٌ من بانكوك، وضِمْنَهَا يقومُ منزِلُهُ. وقد وضعَ في هذهِ الحديقةِ عشرةَ أقفاصٍ كبيرةٍ، وفي كلِّ قفصٍ وضَعَ أفعى من النوعِ الضخمِ أو أُفعوانان إذا كانا من الحجمِ العاديّ. وكلُّ راغبٍ في مشاهدتها يدفعُ نصفَ دولار.
ويرى القارئ أنّني تصوّرتُ مع بعض الأفاعي كتذكار لزيارتي مدينة بانكوك التي أراها للمرَّة الأولى في حياتي.
أَغْرَبُ وَليمَة عشَاء
مساءَ الأَحد اتّفق الدكتور خبصا مع مكتبِ السفريّات على أن يأخذنَا معْ عددٍ كبيرٍ منَ السُيّاحِ المقيمينَ في الفندقِ إلى مكانٍ اسمه بيمان PIMAN لنتناولَ فيهِ طعامَ العشاءِ، وكذلك لنحضرَ الرقصَ التايلاندي.
وفي تمامِ الساعةِ الثامنةِ والربع مساءً حسبَ الإتفاق، وصلنَا إلى ذلك المكانِ. فإذا به قاعةٌ رحيبةٌ تستوعبُ مئةً وخمسينَ شخصاً، وقد مُدَّت فيها موائدٌ غيرَ مرتفعةٍ، كلٌّ منها يتسعُ لشخصين دونمَا زيادة. وتحتَ كلِّ طاولةٍ حفرةٌ عُمقها 60سم بعرض 45 سم.
وحالَ وصولي مع الدكتور خبصا، جلسَ كلٌّ منَّا على الأرض وأَدخلَ رجليه في الحفرةِ، ولمْ يظهرْ من كلينا سوى الرأس والصدر. أمَّا نصفنا السفلي فكانَ مخبوءاً في الحفرة المغطّاة بالمائدةِ التي تناولنَا العشاءَ عليهَا. وكلُ سائحٍ أو سائحةٍ فعَلَ ما فعلناه.
وكنتَ تَسْمَع شتّى أنواع الأحاديث بمختلفِ اللغات: فمنهُم من يتكلّم الإنكليزيّة، وبعضُهُم الإفرنسيّة، وسواهُم التايلانديّة، وآخرون الإيطاليّة أو التركيّة أو الهنديّة أو الألمانيّة. فكانتْ مجموعةُ هذه الأحاديثِ يختلطُ بعضُها ببعض، فيرجعُ صداها الغريبُ ليصطدمَ بالآذانِ التي لا تفهمُ أيّةَ كلمةٍ من خليط هذه اللغات العجيب، إنّما كنتَ تَسْمَع دويّاً وكأنَّهُ دوي قفران النحل الغريب الاهتزازات.
الرقص الدينيّ
وبعدَ انتهاءِ الطعامِ، أعلنتْ المذيعةُ البانكوكيّة أنَّ راقصاتٍ بانكوكيّات سيقدّمن بعضَ الرقصات الدينيّة.
وفجأة برزَتْ فتاتان ترتديان ثيابَ الرقصِ الدينيّ، وراحتا تتمايلان على إيقاعِ المزاميرِ وآلاتِ الطربِ الغريبةِ التراكيب. ولبثتا ترقصان فترةً من الزمنِ. ثمَّ انسحبتا لتظهرَ مكانهُمَا راقصاتٌ أُخَر أكملنَ ما بدأتْ به الراقصتان المبدعتان. وبعدَ ساعةِ رقصٍ كاملةٍ قدّمن فيها فنّهنَّ الدينيَّ العجيبَ الغريب، انسحبنَ إلى ما وراءِ الستار، بينما دوّتْ عاصفةٌ من التصفيقِ استحساناً لإبداعهنَّ الفنّي.
أخيراً، هَرَعَ كلٌّ منّا يبحث عن حذائه الذي خلَعَه ساعة دخوله إلى أغربِ عشاءِ بأعجبِ مدينةٍ.
في 4 آب 1969
نومٌ عَميقٌ
صباحَ 4-8-1969، وكانَ يومَ اثنين، نهضتُ من فراشي ونظرتُ إلى الساعةِ، فإذا بي قد نمتُ ستَّ ساعات كاملة. حقّاً إنَّ هذا غايةَ العجبِ، إذْ لمْ يحدثْ لي، منذُ سنواتٍ طويلةٍ، أنْ أستغرقتُ في نومِ ستّ ساعاتٍ كاملة.
نهضتُ وكُلّي نشاطٌ وحيويّة، وهبطتُ الدرجات قفْزاً أُريدُ المدينةَ لأُشبعَ نَهَمي مِنْهَا قبلَ مغادرتي إيّاها.
رحلةٌ في قاربٍ نهريٍّ
في تمامِ الساعةِ السابعةِ والربع من صباحِ 4-8-1969، وبصحبةِ الدكتور خبصا، استقلّينا الأوتوبيس مع عشراتِ السيّاحِ قاصدينَ النهرَ، يرافقُنا الدليل. وقدْ ركِبْنَا القاربَ، وكانتْ امرأةٌ بانكوكيّة تقودُه. وقد استمرّينا نُغِذُّ السير فيه ونحنُ نشاهدُ البيوتَ الفقيرةَ على ضفّتيه.
كما كنّا نشاهدُ العشراتِ من النساءِ والرجالِ والشبّان والشابّات كلّ منهُمْ مستغرقٌ في عملهِ. وقد كانَ أكثرهُم عاريَ الصدرِ، والأطفالُ عُراة تماماً لشدّة الحرّ القاتل.
كانت سيماء الفقر ظاهرة على الجميع ظهوراً لا شُبْهةَ فيه، والأقذار تملأ مياهَ النهرِ، فإذا هي متّسخةٌ تشمئزُّ النفسُ منها. كمَا أنّ رائحةً كريهةً كانتْ تتنسّمُها أنوفنا فتظهر علاماتُ الانقباضِ والنفورِ على وجوهنا. وهكذا بقي القاربُ يتهادى طوالَ ساعةٍ ونيّف، حتى بلغنَا، أخيراً، مكاناً تُباعُ فيه الأشياء التذكاريّة للسيّاح.
عند ذا وقف القاربُ، وإذا باعة الموز وجوز الهند الأخضر والأناناس وغيرها من فواكه مدينةِ بانكوك يعرضون علينَا ما يحملونه، والأوساخُ تغمرُهُم من قمّةِ رؤوسِهِم حتَّى أخمص أقدامهم. وبعدَ أن ابتعتُ بعضَ الأشياء التذكاريَّة، استقلّينَا الزورقَ، فسارَ بنَا إلى معبدٍ ضخمٍ، بديعِ الهندسة، غريبِ النقوش، أخذتُ له رسمين تذكاريّين. كما أنَّ الدكتور خبصا أخذ له فلماً سينمائيّاً ليبقى تذكاراً لرحلتنَا إلى بانكوك.
وفي طريقِ عودتِنَا، شاهدْنَا بعضَ النُسوة وقد انهمكن بغسلِ صحونِ الطعامِ وتنظيفها، ولكن بماذا؟! صدّقوني: بماءِ النهرِ المليءِ بملايين الجراثيمِ الرهيبة! أَيُصَدَّق هذا؟! نعم، إنها حقيقةٌ لا مراءَ فيها. لقد شاهدتُها مشاهدةً عيانيّة مثلما شاهدها كلُّ من كانَ معي بالقارب. فيا للغرابةِ!
وفي تمامِ الساعةِ الحاديةَ عشرةَ، غادرنَا القاربَ ونحنُ مأخوذان بما شاهدناه وما سمعنَاه!
إلى مَعْبَد بُوذَا الزمرُّدي
كانتْ الساعةُ الثانيةَ عشرةَ ظهراً عندما استقلّينا سيّارةَ سائقِ الأمسِ الذي أخذنَا إلى حديقةِ الحيواناتِ. وقد طلبنَا منهُ أن يُقلّنا إلى معبدِ بوذا الزمرّدي، ففعَل. وهو لا يبعدُ عن الفندقِ أكثرَ منْ رُبعِ ساعةٍ.
حقّاً إنَّ هذا المعبدَ لَمُعجزةٌ، بل قُلْ مُعجزةَ المُعجزاتِ! فما الذي أستطيعُ أن أصفه؟!
هل أصفُ دقَّةَ الهندسةِ العجيبةِ، أم فُسيفساءَ العاج والصدفِ المتداخلين ببراعةٍ ومهارةٍ عظيمتين؟ أم أصفُ الوشي الذهبيّ وحُسْنَ سَبْكه، ثمّ دمجه، والتفنّن العظيمَ بصنعِهِ؟! إنّه آية! آية عظمى لا نظيرَ لها!
كنتُ أنظرُ إلى مجموعةِ المعابِد، وأنا مبهورٌ، بل قُلْ مسحورٌ، لعظيمِ جمالِهَا وروعةِ سَبْكها وإنسجامِها الذي لمْ أرَ له مثيلاً. إنَّ هذه المعابدَ آياتٌ خالدةٌ من الفنِّ القديم، هذا الفنُّ العظيم الذي خلَّدَ بوذا الحكيم مؤسِّس البوذيّة قبل ألفين ونيّف منَ الأعوامِ. لقد خلّدَه البوذيّون. ولِمَ يا تُرى؟.
لقد خلّدوه لأنَّه استطاعَ أنْ ينتصرَ على ميولِه الجسديَّة ويقهرَها، استطاعَ أن يدعَ روحَه تتغلّبْ على جسدهِ، وليسَ جسدهُ يتغلّب على روحهِ. لهذا خلّدَهُ البوذيّون آلافاً من الأعوام، وبنوا له مئاتِ الهياكلِ العظيمةِ، أفرغوا فيها كلَّ ما أُوتوه من علمٍ وخبرةٍ ومعرفةٍ ودقّةٍ، فجاءَت آية من آياتِ الإبداعِ الرائعِ، يراها الجميعُ فيُبهرون بها، ويردّدون كلمة: تالله ما أروعَ ما نشاهده!
إنَّ هذه المعابدَ البوذيّة العظيمة يجبُ أن يشاهدها كلُّ من يستطيعُ ذلك.
ولمّا كانتْ الحرارةُ 39 درجة، وكنّا نسيرُ من معبدٍ إلى معبدٍ على أقدامِنا، شعرنَا بأنَّ أرواحنا تكادُ تزهقُ، وضاقتْ أنفاسُنا، وأخذ العَرَقُ يتصبّبُ من أجسادِنا بغزارة. لهذا اختصرنَا الوقتَ وغادرنَا هذه المعابدَ الفريدةَ، وقفلنَا عائدين بالسيّارةِ إلى الفندقِ، ونحنُ نكادُ نلفظُ أنفاسنَا لشدّةِ القيظِ والتعبِ المُضني. وما بلغنَا الفندقَ حتى استلقينَا على سريرينا دونَ أن نخلعَ ثيابنا، ورُحنَا نغُطُّ في نومٍ عميقٍ.
المَطَرُ في 4 آب 1969
وعندما فتَحْنَا أعيننَا، شاهدنَا السماءَ وقدْ أمطرتْ مطراً غزيراً، فارتحنَا لهذهِ الأمطارِ لأنَّهَا ترطّبُ الجوَّ بعدَ حرارتِهِ المُنهِكَةِ للأجسادِ.
البلاطُ المَلَكيّ بحدائقه الغنّاء
استدعينَا السائقَ وطلبنَا منهُ أن يَنقُلَنَا إلى البلاطِ الملكيّ لنشاهدَهُ، فأفادنَا أنَّ السيّاحَ لا يستطيعون مشاهدةَ البلاطِ إلاّ يومَ الخميس، ويجبُ أن يكونَ كلٌّ مِنهُمْ مرتدياً بذلةَ عاديةَ كاملة- لا ثيابَ سبور مثلنا- وبما أنَّ اليومَ هو الاثنين، فلا يمكنُ مشاهدتُه إلاَّ الخميسَ القادم. فطلبنَا منهُ أن يأخذنَا إليه لنرَاهُ من الخارجِ، ففَعَل. وعندما بلغناه وجدنَاه محاطاً من جهاتِهِ الأربع بحديقةٍ غنّاءٍ قدّرتُ مساحتَهَا بمئةِ ألفِ مترٍ مربّعٍ، والحرسُ الملكيُ على كلّ زاويةٍ منْ زواياهُ الأربعُ.
بحيرةُ القصر الملكيّ
وتفصلُ بينَ الحديقةِ والقصرِ ترعةٌ من الماءِ. فمَنْ يريدُ أنْ يبلغَ الحديقةَ عليهِ أنْ يقطعَ الترعة، وإذ ذاك يصلُ إلى السورِ الخارجي المحيطِ بالحديقة، وهناكَ يواجهُ جنديّاً يمنعهُ مِنَ الدخول.
وبعدَ أن شاهدْنَا البلاطَ الملكيّ منَ الخارجِ، عُدنَا إلى الفندقِ، عاقدين الأملَ بأنْ نسافرَ الغدَ إلى مدينةِ بنوم بن.
في 5 آب 1969
إلى فُنْدُق هادي حَجَّار
في الساعةِ الثامنةِ والنصفِ صباحاً، طلبتُ من الدكتور خبصا أن يأخذَني إلى الفندقِ الذي نزلَ فيهِ الأخُ هادي حجّار، قبلَ أشهرٍ، عندما زارَ بانكوك. فاستقلّينا سيّارة أوصلتنا إلى فندق مونو روم، فإذا هو حسنٌ، لكنَّ الفندقَ الذي نزلنَا فيهِ أفضلَ منه، خصوصاً بحديقته الغنّاءِ الفيحاءِ وحوضَ السباحةِ فيها البالغ الجمال والتامّ النظافة. وقد ابتعتُ من الفندقِ الذي نزَلَ فيه هادي بعضَ الحلى الفضيّة، ثمَّ عُدنَا إلى فندقِنَا سيام أنتركونتنتال. وقد نسيتُ بالسيّارة التي أوصلتْنا إلى فندقِ هادي ميزاناً لحرارة الطقس أسفتُ عليه كثيراً لأنه كان يهمُّني، وما كنتُ قد استعملتُه إلاّ يوم سفري، إذ أحضرتُه معي لأعرف بواسطته حرارة كلّ بلدٍ أُسافرُ إليه.
إلى بنُوم بن
في تمامِ الساعةِ الثانيةَ عشرةَ ظهراً، استقلّيتُ والدكتور خبصا سيّارة تاكسي إلى محطّة طيران بانكوك. وقدْ استغرقَ ذهابُنَا من الفندقِ إلى المحطّةِ نصفَ ساعةٍ، وذلك يعني أنَّ مطارَ بانكوك يبعدُ عن قلبِ المدينةِ ضِعفَيْ بُعدِ مطارِ بيروت عن ساحةِ البرج. وبعدَ وصولنا، مكثنا في استراحةِ المطارِ حتى الساعةِ الثانية والربع بعدَ الظهر، وإذ ذاك حطّتْ الطائرةُ بوينغ 727، فاستقلّيناها، وحلّقت بنَا فوراً، فبلغنا بنوم بن في تمامِ الساعةِ الثالثة وخمس دقائق.
وللحالِ استقلّينا أوتوكاراً إلى فندق سَبَقَ لهادي أنْ نَزَلَ فيه. أمّا أنا فلمْ أُعجَبْ بهِ لأنّي شعرتُ بضيق فور دخولي إليه، لأنّ الظلمة تكتنفُهُ من الداخل فينتاب المرءَ انقباض حالما يلجه. ولذا غادرتُه مع الدكتور خبصا، واعتلى كلٌّ منَّا درّاجةً صُنِعَتْ كعربة، وذهبنَا إلى فندقِ (مونو روم أوتل) حيث حجزَ لنَا الدكتورُ خبصا غرفةً ابتداءً من يومِ الخميس الموافق 7آب 1969. وبعدَ أن جُلنَا في أرجاءِ المدينةِ على الدرّاجاتِ التي يسيّرُها سائقون، اتّجهنَا إلى محطّةِ الطيرانِ لنستقلَّ الطائرةَ إلى آنكور مدينةِ المعابدِ البوذيّة.
ليل 5 آب 1969- انتظارنا للطائرة فاشل
أعلنتْ المذيعةُ أنَّ الطائرةَ ستُقلعُ بنا في السادسة مساءً. وما وافتْ السادسةُ حتَّى عادتْ المذيعةُ فأعلنتْ أنَّ الطائرة، لأسبابٍ فنّية، ستُقلعُ في التاسعةِ والنصفِ ليلاً. كمَا صرّحتْ بأنَّ الشركةَ قد دَعَتْ جميعَ الركّابِ القاصدينَ آنكور إلى العشاءِ في مدينةِ بنوم بن على حسابِهَا، وأنَّها ستُعيدُهُم بالأوتوبيس إلى المحطّةِ لتُقلَّهُمْ الطائرةُ إلى آنكور.
وللحالِ استقلّينا السيّارة إلى بنوم بن، وتناولنَا طعامَ العشاءِ فيها. وفي تمامِ الساعةِ التاسعةِ، وصلَ الأوتوبيسُ وانتظرَنا أمامَ المطعمِ، فأسرعنَا بالصعودِ إليهِ، فأعادَنَا إلى المطارِ، وإذا الطائرةُُ جاثمةٌ على أرضهِ وقد كُتِبَ عليهَا: AIR ROYAL KAMBODIA أي الخطوطُ الجويّةُ الملكيّةُ الكمبوديّةُ، فدخلنَاهَا. وللحالِ حلّقتْ بنَا، وراحتْ تمزّقُ الفضاءَ بأزيزها المدوّي حتَّى كادتْ آذانُنَا تتمزّقُ لهديرِهَا المعكّرِ للأجواءِ.
كانتْ الساعةُ عندَ إقلاعِهَا، العاشرةَ إلاَّ رُبعاً ليلاً، فوصلنَا إلى سيام رياب أي معابدَ آنكور في تمامِ الساعةِ العاشرةِ والرُبعِ ليلاً. وبعدَ معاملاتِ جوازاتِ السفرِ في الأمنِ العامّ، استقلّينَا الأوتوبيسَ مع بقيّةِ السُيّاحِ والسائحاتِ إلى فندقِ أوبرج، وهو على مقربةٍ مِنَ المعبدِ البوذيِّ الأكبر. وفي تمامِ الساعةِ الثانيةَ عشرةَ، منتصفَ الليلِ، رقدْنَا بعدما أَنهكَنا التعبُ، وأخذنَا قسطَنَا من الراحةِ التي نحنُ بأشدِّ الحاجةِ إليهَا.
في 6 آب 1969
تطوافنا على معابد آنكور الفخمة الرائعة
تناولْنَا طعامَ الصباح، وفي تمامِ الثامنةِ والنصفِ استقلّينا معْ السُيّاحِ الأوتوبيسَ، وقصدنَا معابدَ آنكور، ونحنُ نحملُ آلتيْ تصوير وسينما لنلتقطَ مشاهدَ متعدِّدة عن المعابدِ القديمةِ العهد. وقد مكثْنَا نجولُ فيها ساعتين ونيّفاً، متأمّلين عظمتَهَا، مستغربين الاستغرابَ كلَّه كيفيّةَ تَمكنُّنِ شعبٍ، في تلكَ الحقبةِ البائدة، مِنْ بناءِ هياكلٍ بالغةِ الفخامة، وتحليتِها بمئاتِ التماثيل ذاتِِ الدقّةِ المتناهية؛ ناهيكَ عن حفرِ حروبِهم على الجُدرانِ ببراعةٍ تجلُّ عن الوصفِ. حقّاً إنَّ هذا العملَ عظيمُ كلَّ العظمةِ ورائعٌ الروعةَ بأكملها!
وقد أَنزَلنا الدليلُ إلى معبدٍ ما كدنَا ننتهي من درجاتِهِ العشرين حتَّى سرنَا في ممرٍّ لا يزيدُ عرضُه عن الأربعين سنتمتراً، ولا يتجاوزُ طولُهُ خمسةَ أمتارٍ، ثمَّ عطَفْنا على ممرِّ ثانٍ يماثلُه، ولكن بإعوجاجٍ آخر. وما كدنَا نقطعُهُ حتَّى برزَ لنَا سواهُ، ثمَّ آخرُ وآخرُ حتى أربى عددُها على عشرةِ ممرّاتٍ. وهذه المنعطفاتُ بُنيت بدقِّة عظمى لا نظيرَ لهَا. وقد عجزَ الدليلُ عن إعطاءِ البرهانِ على سببِ وجودِهَا. ولكنّني عرفتُ بأنَّها كانتْ دهاليزً سرّيةً يمرُّ فيها الكَهَنَةُ في المناسباتِ التي تروقُهُم، وخصوصاً في ساعاتِ الخطرِ الشديدِ على حياتِهِم.
جولةٌ على الدرّاجات البُخَاريَّة
واعتليتُ أنا والدكتور خبصا، كلٌّ منَّا، درّاجةٌ بخاريّةٌ أُلحقتْ بها عربةٌ تستوعبُ راكباً لا غير، ويسوقُها شخصٌ وطنيّ من أبناءِ البلاد. وهكذا ذرعنَا شوارعَ المدينةِ وغاباتِها.
وفجأةً شاهدتُ فيلاً يرعى في غابة، فطلبتُ من السائقِ الوقوفَ، وأشرتُ للدكتور خبصا أن يأخذَ لي صورةً سينمائيّةً مع الفيل. ثم عدتُ واستقلّيتُ العربة. وما كدتُ أفعلُ حتى انهمرتْ الأمطارُ فجأةً بغزارةٍ شديدةٍ للغاية. وراحتْ السماءُ تقذِفُنَا بأمواهِهَا حتى طافتْ الغاباتُ، وامتلأتْ أرجاءُ الأرضِ بالأمطارِ المتساقطةِ بجبروت.
أمّا أنا والدكتور خبصا فلمْ نستطيعْ دَرْءَ المطرِ عنَّا إلاَّ بتغطيةِ رأسيْنَا بقطعةِ نايلون كانَ يحمِلُها كلٌّ من صاحبَيْ الدرّاجتين، تحسّباً للأمطارِ المفاجئةِ في هذهِ البلاد.
واستمرَّ هطولُ المطرِ ساعةً كاملةً، وما كادَ يتوقفُ حتَّى هرولنَا إلى الفندقِ ونحنُ مغموران بالماءِ من قمّةِ رأسينَا حتَّى أخمصِ أقدامِنَا.
ذهابي مع خبصا إلى المدينة
في الساعةِ الثالثةِ بعدَ الظهرِ، استقلّيتُ أنا والدكتور خبصا درّاجتين بخاريّتين، وذهبنَا إلى المدينةِ التي تبعدُ سبعةَ كيلومتراتٍ عن فندقنا. فكانتْ الغاباتُ الضخمةُ الأشجارِ تطالعنَا طوالَ الطريقِ مِنْ على الجانبين، كما كانتْ المنازلُ تقومُ بينَ الحدائقِ الغنّاءِ الوارفةِ الظلال. كان منظرُ الطبيعةِ فتّاناً يأخذُ بمجامعِ القلوب.
وما بلغنَا المدينةَ حتَّى شاهدنَا المتاجرَ التي تبيعُ المنحوتاتِ الحجريّةِ لمؤسِّسِ البوذيّة. فابتعتُ منها ما طابَ لي. ثمَّ شربتُ عصيرَ جوزةِ هندٍ خضراءَ فضَّلتُ عليها حليبَ الجوزِ الهندي اليابس.
وعندما حاولْنَا الرجوعَ، عادتْ الأمطارُ تضربُ الأرضَ بشدَّةِ الفرسِ الحرون، مِمَّا أرغَمَنا على تركِ الدرّاجتين البخاريّتين بعدمَا نَقدْنَا صاحبيهما الأجر، وعُدْنَا بالتاكسي إلى الفندقِ، ونحنُ نحملُ ما ابتعناهُ من تُحَفٍ جميلةٍ.
15 رِسَالة كَتَبْتُها وأَرسلْتُها
حالَ وصولي إلى الفندقِ، كتبتُ إلى عددٍ من إخواني وأخواتي الداهشيّين والداهشيّات خمسَ عشرةَ رسالةً وضعتُها في صندوقِ البريدِ. وكانتْ الساعةُ قدْ بلغَتْ السابعةَ مساءً، فذهبتُ وأخي الدكتور خبصا إلى مطعمِ الفندقِ، وتناولنَا العشاءَ، وكان يتألّفُ من صحنِ حساءٍ، كما أني طلبتُ لحماً مع بيض، ثم صحناً فيه لحمُ خنزيرٍ ولوبياءَ خضراءَ. كما أنّي طلبتُ صحنَ سلَطةٍ قدّموه لي مع خيارةٍ وقطعَتيْ بندورة وورقةَ خسّ، لأنّ الخضرةَ، كما يظهرُ، قليلةٌ في هذهِ المدينة، وقَلَّ من يطلبُ مع الطعامِ سَلَطَة.
وبعدما تناولتُ العشاء، عدتُ إلى الفندق، وشرعتُ أُدوّنُ وقائعَ أيّامِ رحلتي، منَ السبتِ الموافقِ 2آب 1969 يومَ أقلعَتْ بي الطائرةُ من مطارِ بيروت، حتَّى هذا اليومُ السادس من آب 1969. وقد بدأتُ كتابةَ أحداثِ الأيّامِ الخمسةِ في الساعةِ التاسعةِ إلاَّ ثُلُثاً، وهي ذي الساعة الآن الحادية عشرة إلاَّ ثُلُثاً وقد انتهيتُ من تدوينِهَا جميعاً. وإلى الغدِ إن شاءَ الله.
في 7 آب 1969
الإستِعْْدادُ للسّفَر إلى مدينة بنوم بن
استيقظتُ في الخامسةِ إلاَّ ثُلُثاً صباحاً، وكذلك أخي الدكتور خبصا. وللحالِ رتَّبْنَا حقائبنا تمهيداً لذهابنا إلى باحةِ الفندقِ مع بقيّةِ السيّاح لكي نتوجَّهَ بالسيّارةِ إلى محطّةِ الطيرانِ حيثُ تُقِلّنا الطائرةُ إلى مدينةِ بنوم بن التي سبقَ وذهبْنا إليهَا في الخامسِ من الشهرِ الجاري، الساعة الثالثة بعدَ الظهر؛ وقد حجزنَا، يومذاك غرفةً في فندقِ (مونو روم أوتل) وتابعنَا سفرنَا إلى آنكور مدينةِ المعابدِ البوذيّةِ القديمة.
وفي تمامِ الساعةِ السادسةِ انطلقَتْ بنَا السيَّارة إلى المطارِ، فبلغنَاهُ بعدَ ستِّ دقائق. وإثْرَ انتهائِنَا من المعاملاتِ الرسميّةِ في الساعةِ السابعة، أقلعَتْ بنا الطائرةُ وأبلغتْنا المضيفةُ أنَّ الطائرةَ ستحلّقُ بنَا على إرتفاعِ 5500 قدمٍ فقط.
وفي تمامِ الساعةِ السابعةِ والنصفِ إلاّ خمس دقائق، هبطتْ الطائرةُ على أرضِ المطار، ودونَ إبطاءٍ، استقلّينَا الأوتوبيسَ مع بقيّةِ السُيّاحِ، فبلغنَا فندقَ مونوروم MONOROOM الذي كنّا قد حجزنَا فيه غرفةً، وأودعناهُ حقائبَنَا.
الذّهابُ إلى القُصُورِ المَلَكِيَّة
وفي التاسعةِ، قدِمَتْ السيّارة التي أقلّتْنا لمشاهدة معالمِ المدينةِ الجديرةِ بالمشاهدة. فذهبنا، أوَّلاً إلى معبدِ فوم PHOM وهو يقومُ على أكَمةٍ جميلةٍ، تُحيط به حديقةُ فسيحةٌ منسّقة تنسيقاً جيّداً. وبعد أن صوّرْنا رقَصاتٍ دينيَّة فنّية على إيقاعِ الآلاتِ الموسيقيَّةِ المختصَّةِ بهذا النوعِ منَ الرقصِ الخاصِّ بالعبادةِ البوذيَّة.
ثمَّ شاهدنَا الكنوزَ الملكيَّة:
فهُنَا معبدٌ بوذيٌّ مصْنُوعٌ من الذّهبِ الخالصِ يزنُ ستّين كيلوغراماً، وتضمُّه خزانةُ ذاتُ واجهاتٍ زجاجيّة.
وهناكَ حجرٌ ماسي زِنَتُه أربعون قيراطاً، وحولَهُ حجارةٌ من نوعهِ أصغرَ منه، وهو يتوسطُها.
وهنالك مجموعةٌ كبيرةٌ من الخواتمِ الماسيّةِ والزمرّديّة، والكثيرُ من الحجارةِ الثمينةِ وقد رُصِّعَتْ بها تيجانَ ودمالجَ وخلافهَا.
كما أننا شاهدنَا مجموعةً من السيوفِ والخناجرِ الملَكيَّةِ وقدْ رُصِّعَتْ مقابضُها بالحجارةِ الكريمةِ والجزَع.
ومن هُناكَ انتقلنَا إلى قاعةِ العرش، وهي فخمةٌ وسيعةُ الأرجاءِ، يقومُ العرشُ في آخرها تقريباً. أمّا سقفُ هذه القاعةِ فموشّى بزخارفٍ ترتاحُ لها العينُ، وقد رصّعَه فنَّانٌ كمبوديّ بملحمةٍ الرامايانا وهي تتحدَّث عن الحروبِ البطوليّةِ التي خاضَهَا الشعبُ الكمبوديُّ ضِدَّ أعدائِه. كما أنّها تقصُّ أشهرَ الحوادثِ التي يتعلّقُ تاريخُها بهذهِ البلادِ العريقة.
وأخيراً، زُرنَا مُتْحَفَ الآثار الذي يضمُّ شتّى أنواعِ التماثيل منْ آلهة وإلهات، وهي منحوتةٌ نحتاً فنيّاً يأخذُ بمجامعِ القلوب.
وكذلك شاهدنَا القاربَ النهريّ الذي يُقلُّ ملوكَ الكمبوديّين في نهرَيْ ميكونغ وتونله ساب TONLE:SAP وMEKONG .
كما شاهدنَا المدينةَ الرياضيّةَ وهي تستوعبُ خمسينَ ألفَ متفرّجٍ، وقد نُسِّقَتْ تنسيقاً بديعاً. وفي تمامِ الساعةِ الثانيةَ عشرةَ، عُدنَا إلى الفندقِ ونحنُ نكادُ نختنقُ لشدّةِ الحرارةِ التي كانتْ ساعتذاك 35 درجةٍ مئويّة بميزانِ سنتيغراد.
ذهابي إلى سُوقَي الفواكِه والأسْمَاك
في تمامِ الساعةِ الثالثةِ بعدَ الظُهر، ذهبتُ إلى سوقِ الأسْمَاك وهو على مسيرةِ خمسِ دقائقَ من فندقنا. إنَّ مشهدَ سوقِ الأسْمَاكِ هو أعجبُ ما يمْكنُ أن تشاهدَهُ العينُ:
فهنَا أكوامٌ من الأسْمَاكِ النهريّةِ الكبيرةِ الحجم، وهي ما تزال تتحرَّكُ وتقفزُ، والشارون يُساومون الباعةَ بلغةٍ لم أفهمْ مِنْهَا حرفاً.
وهُناكَ السراطينُ تملأ السلالَ المجدولةَ من أليافِ الأشجارِ، وقد تجمهرتْ النُسوةُ حولَها وهُنَّ يتكلَّمنَ برطانةٍ هي أعجبُ ما سمعَتْهُ أُذني. أمَّا اللحومُ والأسماكُ المقدَّدَةُ، فإنِّي أُعيذُكَ من تنسُّمِ روائحُها الرهيبةِ القتّالة!
وفي هذا السوقِ العجيبِ الغريبِ يختلطُ الحابلُ بالنابل، فلا تستطيعُ متابعةَ طريقِكَ إلاَّ بشقِّ النفس. وكادتْ العيونُ تلتهمُني، إذْ إنّني كنتُ أحملُ في عنقي آلةَ التصويرِ الفوتغرافي، وعشراتٍ من النِساءِ والرجالِ طلبوا منِّي أن أُصوّرَهم، فأهمتُهم بأنَّه ليس في الآلةِ فِلْم.
وبعدَ أنْ شاهدتُ هذا السوقَ المدهشَ انتقلتُ إلى سوقِ الفواكه البنوم بنيّة.
في سُوقِ الفَوَاكِه
أمَّا سوقُ الفواكِه فمسقوفٌ ومُحاطٌ من كافّةِ جنباتِه الواسعة بقضبانٍ حديديَّة. وكانتْ أقراطُ الموزِ معلَّقَةً بوفرة في أكثرِ من مكانٍ، ومنهَا أنواعٌ: فنوعٌ لونُهُ شديدُ الخضرةِ، وآخرٌ شديدُ الصفرةِ، ونوعٌ مستديرٌ ومُخْتَلفٌ عن سابقيه، كما أنَّ ثمّةََ صنفاً آخر لا تزيدُ الموزةُ منه على البنصر، أو هي أقلّ. كما كانتْ هناكَ أنواعٌ عديدةٌ من الفواكه التي لا أعرفُ أسماءَها، ولا كيفيّة أَكْلها، أنيئةً أم مطبوخةً، وهي لا توجدُ إلاّ في هذه البلادِ ذاتِ الغاباتِ الكثيفة. وكنتُ ألحظُ بين الفينةِ والفينة بعضَ السيّاح والسائحات يتجوَّلون في هذا السوق، ودلائلُ العَجبْ مرتسمةٌ على شفاهِهِم لِما يُشاهدونَه من غرائبِ ما اعتادوا أنْ يُشاهدوها في بلادهم.
غانيَة كَمْبُوديَّة
وبينما كنتُ أَتأمَّلُ نوعاً غريباً للغايةِ من الفاكهةِ- إذْ إنّه أشبهُ بغصنِ شجرةٍ غليظٍ والبائعُ يقطّعْهُ بسكِّين قذرةٍ مُثَلَّمة الشفرة في أكثر من موضع- وُضِعَتْ يدٌ على كتفي من الوراء، فاستدرتُ لأشاهدَ فتاةً صبيحةَ الوجه، لا يزيدُ سِنُّها عن الثمانية عشر عاماً، وهي تُشيرُ إليَّ أن أتْبعَها، فاستفسرتُها الأمرَ بالإشارات، ففهمتُ منها أنَّها تسألُني إذا كنتُ أريدُ أن أذهبَ إلى منزلِهَا لقضاءِ فترةٍ ما معها.
ولمّا أدركتُ غايتَها، نقَدْتُها دولاراً أمريكيّاً، وودّعتُها بإشارةٍ من يدي، وإذا بِهَا تنحني ورأسُها يكادُ أن يُكنِّسَ الأرضَ تبجيلاً للدولارِ وليسَ لي.
في 8 آب 1969
تجوالي في أرجاءِ المدينة بعد ليلةٍ ليلاء
كانتْ ليلتي ليلاءَ لم يغمضْ لي فيها جفنٌ، وكنتُ أتقلّب على فراشي وكأنَّني أتقلَّبُ على جمرِ الغضا، وطالَ الليلُ عليّ، ولم ينبلجْ الفجرُ حتّى كادتْ روحي تزهقُ. ومع وصولِ خيوطِ النور الأولى، قفزتُ من فراشي والتعبُ آخذٌ منّي كلَّ مأخذَ، ورحتُ أرتدي ثيابي تأهّباً لنزولي إلى المدينةِ لمشاهدةِ متاجرِها وابتياع بعض تُحَفِها، قبلَ أن أستقلَّ، بعدَ ظهرِ اليوم، الطائرةَ الذاهبةَ إلى مدينةِ هونغ كونغ.
وفي تمامِ الساعةِ الثانيةِ، نزلتُ إلى المدينةِ برفقةِ الدكتور خبصا، وأخذنَا بالآلةِ السينمائيّةِ مشاهدَ لسوقِ الخضرةِ، ثمَّ ركبْنا درّاجتين هوائيّتين يسيّرهما كمبوديّان وجوّلنا بهما في أرجاءِ المدينةِ، قبلَ أن نذهبَ في الساعةِ العاشرةِ إلى محطّةِ الطيرانِ لنستقلَّ الطائرةَ إلى مدينةِ التجارةِ العالميَّةِ هونغ كونغ.
إلى مَحَطَّة الطَّيَران
وفي تمامِ الساعةِ العاشرة، استقلّينا سيّارةً إلى محطَّةِ الطيران، وقدْ استغرقَ وصولُنا إليها خمسَ دقائق. وبعدَ المعاملاتِ الرسميّة، جلسنَا في البهو مع عشراتِ السُيّاحِ الأجانب، وعددٌ لا يُستهانُ بهِ مِنَ المسافرينَ اليابانيّين والصينيين والكمبوديين. وكنتُ أسمعُ رطانتَهُم الغريبةَ دونَ أنْ أفهمَ كلمةً واحدةً منها. وكانتْ الطائرةُ التي ستقلُّنا إلى هونغ كونغ رابضةً في المطارِ، وقد كُتِبَ عليها: KAT HAT.
وما وافتْ الساعةُ الثانية عشرة حتى أعلنتْ المذيعةُ وجوبَ دخولِنَا إلى الطائرةِ، فهرعنَا نحوهَا ودخلناها، وهي طائرةٌ تملكُها شركةٌ إنكليزيّةٌ للطيرانِ تستوعبُ مئةَ راكبٍ، نظيفةُ المقاعد، حسنةُ التنسيق. وكانتْ مضيفتان صينيّّتان جميلتا الوجهِ والقدّ تُشرفان على كلِّ كبيرةٍ وصغيرةٍ ممَّا يطلبُه المسافرون، فتلبّيان رغباتِهم فوراً.
وما كادَ يستقرُّ بنا المقامُ حتّى قُدِّمَ لنا طعامٌ دَسِمٌ منْ لحومِ البطّ، والأسْمَاك الطازجة، مع بقولٍ ممَّا تُنبِتُه هذه البلاد، فضلاً عن تقديمهم البيرة، والنبيذ الأحمر، وقطعة حلوى لذيذة، ثمَّ إجاصة ودرّاقة وأناناس. وأخيراً، سُكِبَتْ القهوةُ بفنجان غنيّ بفنّه.
كلُّ هذا والطائرةُ تُحلّقُ بنا في أجوازِ الفضاءِ على عُلوِّ 12 ألف متر، أي 36 ألف قدم. فإذا قلنَا إنَّ جبالَ هملايا، أعلى جبالٍ في العالم، لا تعدو الثلاثين ألف قدمٍ، فتكون الطائرةُ قد حلّقت ستّة آلاف قدم أعلى من جِبال هملايا! فيا للعلم في هذا القرنِ العجيبِ الغريب!
وفي تمامِ الساعةِ الثانيةِ وعشرين دقيقةٍ بعد الظهر، أشرفنَا من عَلُ على مدينة هونغ كونغ بناطحاتِ سحابها.
وكانتْ الطائرةُ آنذاك قد هبطَتْ حتى أصبحتْ على عُلوّ 300 متر، وكانتْ تطيرُ فوقَ البحر، فنشاهدُ الجُزُرَ والمنازلَ والسُّفنَ والقواربَ وهي تسيرُ الهوينا على صفحة بحر هونغ كونغ.
وأخيراً، أَنزَلتْ الطائرةُ عجلاتِها، وحطّتْ في المطار، ودرجَتْ عليه. وقد استغرقتْ رحلتُها من بنوم بن حتى هونغ كونغ ساعتين كاملتين، إذْ غادرنا مطارَ بنوم بن في الساعة الثانية عشرة والثلث تماماً. والمسافة بين البلدين تُنيف على ألفيْ كيلومتر.
في أسواق هُونْغ كُونْغ
وبعد أنْ أنْجزْنَا المعاملاتِ الرسميّةِ لدى الأمنِ العامّ، وأَشَّرَتْ السلطاتُ المختصَّةُ على جوازاتِنَا، استقلَّينا تاكسي إلى فندقِ (بريزدانت أوتل) الذي سبقَ وحجزنَا غرفةً فيه من بيروت.
وأيمُ الحقِّ لقد دُهشتُ للغايةِ من ضخامةِ الأبنية وارتفاعِها- ناطحات سحاب!- ومن إتِّساعِ الشوارعِ وترتيبها النظامي، ثمَّ ممَّا تحتوي هذه المتاجرُ النفيسةُ من كنوزٍ عظيمةٍ بَهَرَتْني. ولا يمكنُ لقلمي أن يشرحَ ما رأتهُ عيني، فخلتُني كأنَّني أُجوِّل في أساطير ألف ليلة وليلة!
إنّ خيرَ ما أستطيعُ قولَه للقارئ: عليه أنْ يذهبَ بنفسهِ إلى هذهِ المدينةِ العظيمةِ ليشاهدَ ما شاهدت، ويلمسَ ما لمستُ، وعند ذاك سيُبهرُ مثلما بُهِرتُ.
إنَّ مدينةً كهذه يتطلّبْ البقاءُ فيها لا أقلَّ من ستَّة أشهر، حتى يستطيعَ المرءُ دراسةَ معالمها، وزيارةَ متاجرِهَا، ومعرفةَََ معيشتها. فهل يُتاحُ لي، ثانيةً الذهابُ إليها، والعيشُ في ربوعِها كي أتمكَّنَ من كشفِ خباياها والتجوال بين كنوزها المدهشة؟ من يدري؟ من يدري؟ إنها من الأسرار!
إلى مطعمِ شاتين فلوتين (العائم)
تجَوَّلتُ في أسواقِ هونغ كونغ، ودخلتُ عشرات المتاجر، وشاهدتُ ما يُبهِرُ البصرَ من الكنوز التي لا تُقدَّر بمال. وقلتُ في نفسي، بينما كنتُ أتملّى التُحفَ المعروضة بإغراء: حبَّذا لو كنتُ أحملُ مليون ليرة، إذاً لكنتُ ابتعتُ بها تُحفاً ثمينةً تُسرُّ العينَ بمشاهدتِها.
وبعدَ أن تعبتُ من كثرةِ الدخولِ إلى المتاجرِ والخروجِ منها، عدتُ إلى الفندقِ حيث كانَ ينتظرُني أخي الدكتور خبصا، فأعلمَني أنَّه اتَّصلَ هاتفيّاً بجيمس كوان وهو مديرُ متجرٍ في هذهِ المدينةِ، وتربطُهُ صداقةٌ بهادي حجّار الذي أرسلَ إليهِ رسالةً من بيروت يطلبُ فيها منه أن يرافقَنا.
وفي التاسعة ليلاً، وصلَ جيمس كوان مع شقيقه، فتعارفنا، ثمَّ استقلّينا سيّارَتَه وذهبنا إلى مطعم شاتين فلوتين (العائم) SHATIN FLOATIING RESTAURANT . وهذا البناءُ شُيِّدَ في داخلِ البحر، والممرُّ الذي يوصلُكَ إليه يبلغ طوله أكثرَ من مئة متر، وهو بناءٌ فخمٌ ذو طابقين، يرتاحُ النظرُ لدى الولوج فيه لنقوشه الملوَّنة الجميلة.
وفورَ دخولنا إليه، اصطحبنا مضيفُنا إلى مكانٍ شاهدنَا فيه الأسماكَ تسبحُ في الماء، كما شاهدنَا السرطانَ والكركند. فانتخبنا ما أردناه منهَا. وللحالِ، أُنضِجَتْ على النار، وقُدِّمَتْ لنا في صحون على الطريقة الصينيَّة.
وبلغَ حسابُ هذا العشاء 90 دولاراً هونغ كونغيّاً- يقابلُها 15 دولاراً أميركيّاً. وبعدَ العشاء، أعادَنا مُضيفُنا بسيَّارته إلى الفندق، فاستغرقتْ الطريقُ نصفَ ساعة.
غَاِنيَةُ الليْلِ الصينيَّة
لم أُشبعْ نهمي بعدُ من هذه المدينةِ وما تحويه متاجرُها الغنيَّة بكنوزِهَا العظيمة. فما كادَ جيمس كوان يوصِلُنا بسيّارتِه إلى الفندق، حتى هرعتُ إلى المدينةِ، وقدْ بَهَرَتْني أنوارُها السنيَّة. لقد كانت تتألَّق كأنَّها الدُرَر واليواقيت! كانتْ الساعةُ، إذْ ذاك، قد بلغت الحادية عشرة ليلاً.
لقد سرتُ في أسواقها، وعرجتُ على منعطفاتِها، وبحثتُ في أزقَّتِها عن كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، ودخلتُ كلَّ متجر مررتُ عليه.
وعندما أنهكني التعبُ، قَفَلْتُ عائداً إلى الفندق، وما بلغتُ مدخَلَهُ حتى اعترضتني غانيةٌ صينيّة، وقالتْ لي: هل لكَ أنْ تزورَ منزلي؟
دخلتُ المصعدَ، ولوّحتُ لها بيدي قبل أن يصعدَ بي. وما بلغتُ غرفتي حتَّى استلقيتُ على فراشي وأنا منهوكُ القوى، ورحتُ أغُظُّ في نومٍ عميقٍ.
في 9 آب 1969
من ضفَّة إلى أُخرى في القارب الجميل
في الساعةِ التاسعةِ صباحاً، قدمَ شقيقُ جيمس كوان، واصطحبَني والدكتور خبصا إلى مكتبِ شقيقهِ الواقعَ في الضفّةِ الثانيةِ من المدينةِ. وقد استقلّينا قارباً كبيراً ذا طابقين، يستوعبُ حوالي ألف راكبٍ ينقلُهم من ضفَّة إلى أُخرى. ومنظرُ هذا القاربِ جميلٌ، ويبلغُ طوله 40 متراً، وعرضُهُ 16 متراً. وكنَّا نرى أفواجاً لا نهايةَ لها تسيرُ في ممرٍّ طويلٍ جداً، حتى تبلغَ إلى نافذة يجلسُ وراءهَا رجلٌ يوازيه رجلٌ آخر للجهة المقابلة، وهذان الرجلان يتناولان الأجر من الركّاب.
وبعدَ أنْ سِرْنا في هذا القارب خمسَ دقائقٍ، بلغنَا الطرفَ الآخرَ من المدينةِ التي يفصلُها البحر. وأوصلَنَا شقيقُ جميس كوان إلى مكتبِ أخيه، وللحالِ أرسلَ كوانُ معنَا موظَّفاً من مكتبهِ طافَ بنا أرجاءَ المدينة حتَّى كلَّتْ أقدامُنَا لطولِ المسير. وفي الساعةِ الثانيةِ أوصلَنَا هذا الموظَّفُ إلى القاربِ البحريّ، فأعادنَا إلى الضفّةِ الأخرى، بعدما ابتعْنَا تُحفاً ثمينةً.
تَجْوالي في أسوَاقِ المَدينَة
لكي أُشبعَ نهمي ممّا تحتويه هذه المدينةُ طفتُ في أسواقِهَا من الساعةِ الثالثة حتَّى الحاديةَ عشرةَ ليلاً. لم أدَعْ مكاناً إلاّ شاهدتُه، ولم يبقَ متجرٌ لمْ أدخلْه وأُقلّبْ بضائعه وأتمعّن في محتوياته.
ولمّا كلَّتْ رجلاي لكثرةِ المسيرِ، ولم تعودا تستطيعان حملي، وشعرتُ، فعلاً، بالإرهاقِ التامّ والكَلال الشامل، إذ ذاك استقلّيتُ التاكسي عائداً إلى فندقِ PRESIDENT، فبلغتُه في الساعةِ الثانيةَ عشرةَ ليلاً وإذا بالدكتور خبصا يقولُ لي: ظننتُكَ قد ضعتَ!
أجبتُه: أجل، لقد أضاعني كنوزُ المدينة، وأيمُ الحقّ!
في 10 آب 1969
إلى مصنع العاج
في التاسعةِ صباحاً، استيقظتُ. وإذا الأمطارُ الهتّانةُ تتساقطُ بغزارةٍ عجيبةٍ. وكانَ الجوُّ مكفهرّاً، والسماءُ مقطّبةُ الجبين، والريحُ تصفِّرُ بقوّة، وومضُ البرقِ ثمّ دوّى الرعدُ فإذا هو كقصفِ المدافعِ! فيا لعظمةِ الخالقِ، جلّتً قدرتُه!
وقُرعَ البابُ، وكانَ القادمُ سنج بوي شي وهو موظَّفٌ في المتجرِ الذي كانَ هادي حجّار يتعاملُ معه، وقد وصلتْهُ منهُ رسالةٌ يُعلمْه فيها باليومِ الذي سنصلُ فيهِ إلى مدينةِ هونغ كونغ، فأرسلَ لنا أحدَ موظّفيه ليرافقنَا ويُرينَا ما نرغبُ بمشاهدتِه من معالمِ المدينة.
وقد رافقنا سنج بوي شي إلى مصنعٍ للعاجِ فيه من التحفِ العاجيَّةِ الثمينةِ ما يُقدَّرُ بالملايين. وقد انتخبتُ بِضعَ قِطَعٍ منها هي آيةٌ في الروعةِ والجمال. وعندمَا خرجنَا من هذا المصنع، كانتْ الساعةُ الثانيةَ عشرةَ ظهراً، فعرَفنا أنّنا مكثنَا ثلاثَ ساعاتٍ كاملةًٍ! فيا لإغراءِ التُّحَف العجيب!
طوافي في مَتَاجرَ الفَنِّ
وودّعَني الدكتور خبصا، وقفلَ عائداً إلى الفندق، وهو يقول لي:” أنتَ لا يُمكنْ أن تُشبِعَ نَهَمَكَ من التُحف واللوحاتِ الزيتيَّة. فإذا داومتُ على مرافقتِكَ، وأنت تنتقلُ من مكانٍ إلى آخر، فسأُصابُ بالمرضٍ والإنهيار”. فوافقتُه على صحّةِ كلامهِ، ثمَّ انطلقتُ أبحثُ عن المتاجرِ المختصَّة بالتحفِ الثمينة. كمَا زرتُ عشراتٍ من الغاليرهات التي تبيعُ لوحاتٍ زيتيَّةٍ.
وعندما عدتُ إلى الفندق، كانت الساعةُ قد بلغَتْ الثالثة. وإذا بي أجدُ الدكتور خبصا يجلسُ في صالون الفندقِ مع كوان وزوجته، وقد وصلا في الساعةِ الثانية حسبَ الموعِد، وانتظراني مع الدكتور خبصا ساعةً كاملةً. فاعتذرتُ لتأخُّري بقولي: إنّي تهتُ عن الفندقِ لأنّني غريبٌ، وهذا ما سبّبَ تأخّري. فأجابني خبصا: أنت لم تَتِهْ عن الفندق، بل الكنوزُ الفنيَّةُ هي التي جعلتْكَ تتيه، فتتأخّرُ عن الموعدِ.
ذهَابي إلى الحُدودِ الصِينيَّة
واستقلّينا سيّارةَ المستر كوان، وجلستْ زوجتُه إلى جانبه. وبعدَ سَيْر متواصلٍ تحتَ الأمطارِ العظيمة مدَّة ساعة ونصف، بلغنا حدود الصين الحمراء، وكانت على بعد كيلومتر ونصف عنّا. وشاهدنا هناكَ مزارعَ البَطِّ وهي تعومُ بالألوفِ على سطحِ البحيرة. وبعدَ أنْ تملّينا قِمَمَ الجبال وسفوحها، وتفرَّسنا في تلك البطاحِ ومعالمها، قفلنَا عائدين إلى المدينةِ والأمطارُ ما تزالُ تضربُ البلادَ طولاً وعرضاً. وقد ودّعْنَا المستر كوان وزوجته، وصعدنا إلى الفندق.
ذهابي إلى مَلْهى ليليٍّ برفقة سنج بوي شي
قَدِمَ السيّدُ سنج بوي شي في التاسعةِ والنصفِ ليلاً، وأبدى استعدادَه ليأخذنَا إلى ملهى ليليّ لنطّلعَ على العاداتِ الصينيَّة. فاعتذرَ الدكتور خبصا لتعَبِه من رحلةِ اليوم. أمّا أنا فصحبتُ السيّد سنج إلى الملهى، وهو قريبٌ من فندقِنَا.
وقد شعرتُ بالحزنِ والكآبةِ يغمرانني من قِمَّةِ رأسي حتّى أخمصِ قدميّ، عندمَا شاهدتُ الراقصين والراقصاتِ وهم يتمايلونَ بجنونٍ على أنغامِ الموسيقى الصاخبةِ. إنَّ هذه المشاهدَ تبعثُ الحزنَ في النفسِ لا المرحَ. وقد طلبتُ من السيّدِ سنج أن نغادرَ المكانَ، فعجِبَ للأمر واستفسرَ عن السببِ. فأجبتُه: إنَّني أشعرُ بصداعٍ. وحقيقةُ الأمرِ كان شعوري بالصداعِ أمراً واقعاً بالنسبةِ لما شاهدتُه منْ جنونِ البشرِ في هذا العصرِ المريب. لقد نسي البشرُ، كما يظهرُ، قصّةَ الطوفانِ الذي لمْ يُبقِ ولم يذَر. كما نسوا اندثارَ سادوم وعامورة، وكيفَ أنزلَ اللهُ نيرانَه المُرعبةَ عليهما، فالتهمتهُمَا، وبغمضةِ عينٍ أمستا في خبرِ كانَ.
واليومَ، فاقتْ الشرورُ، أضعافاً مضاعفةً، شرورَ ذلك الزمانِ السحيقِ الغابر. وليسَ عجيباً أن نستيقظَ يوماً، وإذا الأرضُ قد دُكَّتْ دكّاً، وتزلزلتْ أركانُها، وتقوَّض بنيانُها، فإذا هي عصفٌ مأكول!
فهل من سميعٍ، وهل من مُذيعٍ لهذا الشرِّ الساحقِ الماحقِ؟!
وليَعْلَمْ جميعُ أبناءِ الأرضِ بأنَّ الله يُمهلُ ولا يُهملُ.
في 11 آب 1969
ذهابي والدكتور خبصا إلى مصنع العاج
أصبحتُ، وإذا السماءُ تقذفُ الأرضَ بأمطارِها الغزيرة. ففاضتْ الطُرُقُ بالمياه، واختلطَ الحابلُ بالنابل. وكنتَ ترى آلاف الرجالِ والنساء وقد امتلأت بهم الشوارعُ وغصَّت بكثرتهم.
وكان معظمُهُم يحملون المظلاَّتِ الواقية، لتدرأَ عنهُمْ الغيثَ المدرارَ المتساقطَ بجنونٍ. إنّ هذه السماءَ المتجهِّمةَ، وأمطارَها المتواصلةَ منعَتْ عنَّا أخذَ المشاهدِ بالآلةِ السينمائيَّةِ أو الفوتوغرافيّة.
وبعدمَا تناولنَا طعامَ الفطورِ، ذهبتُ والدكتور خبصا إلى مصنعِ العاج. ومكثْنَا أكثرَ من ساعةٍ ونحنُ نُعيدُ النظرَ بمَا انتخبتُه، يومَ أمس، من القِطعِ العاجيَّةِ النفيسةِ للغاية.
وكانَ عددُ القطعِ المنتقاةِ إحدى عشرة، زدتُ عليها ناباً كاملاً من نابَيْ الفيل. وكانَ الفنّانون قد تفنّنوا في نقشِ الرسومِ والأشخاصِ على هذا النابِ، فجعلوهُ آيةًً رائعةًً تُفتنُ النظر.
وقد طلبَ المصنعُ ثمَناً لهذهِ القطعةِ ستّةَ آلافِ دولارٍ أمريكي. وبعدَ اللتيّا والتي، تراضينَا على خمسةِ آلافِ دولارٍ أمريكي. وهي تحفةٌ نادرةٌ قلَّ أن تجدَ لهَا مثيلاً.
وخرجنَا من المتجرِ، وأنا شاعرٌ بأنَّ رأسي يكادُ أن ينفجرَ لشدّةِ الألمِ. كما أنّي أحسستُ بضيقٍ عظيمٍ يستولي عليّ. فهرولتُ لأدرِكَ الفندقَ القريبَ من هذا المصنع، لكنّ الأمطارَ الهتّانة حالتْ دونَ بلوغي المرام. فوقفتُ تحتَ إفريز مخزنٍ لأقيَ نفسي مِنْ جنونِ الأمطارِ العنيفةِ، ووقفَ خبصا بجانبي وهو يقولُ: تالله ما أشدَّ انهمارِ هذهِ الأمطار! وبعدَ ساعةٍ كاملةٍ أمضيناهَا وقوفاً، لا نستطيعُ أن نبتعدَ قَدَماً واحدة، سكنَتْ ثائرةُ الأمطارِ قليلاً، فعدونَا نقطعُ الشارعَ إلى الجهةِ المقابلةِ. وفي تلكَ الجهةِ كانَ فندقُنَا، فصعدْنَا إليهِ كيْ نأخذَ لنا قسطاً مِنَ الراحةِ.
تَجْوَالي وخَبْصَا في مَتَاجِرَ المدينَة
قلتُ للدكتور خبصا: ما دُمْنَا سنستقلُّ الطائرة، غداً، إلى مدينةِ أوزاكا باليابان، فدعْنَا نمتِّعَ البصرَ بمتاجرِ هذه المدينةِ الغنيَّةِ بكنوزِهَا الفريدة. وسرعانَ ما قادتْنَا أقدامُنا إلى كلِّ متجرٍ مرَرْنا به، فكنَّا نتأمَّلُ المعروضاتِ ونُساوِمُ بأثمانِها. وقدْ خرجتُ بنتيجةٍ مُحقَّقة وهي: على الشاري أن يدفعَ للمتجرِ ثمناً للحليةِ أو سواها نصفَ ما يُطلبُ منه، فيقبل. وهذا الأمرُ تعلّمتُه بعدمَا أنفقتُ مئاتِ الدولاراتِ التي دفعتُها وفقَ ما طلبوا منّي، وذلك في اليومين الأوّلين لوصولي إلى هونغ كونغ. أمّا في اليومين الأخيرين فقد جرّبتُ أنْ أدفعَ النصفَ، ونجَحتْ تجرُبتي.
أمّا في المخازنِ الكبيرةِ فالثمنُ لا مساومةَََ بهِ على الإطلاقِ، إذ تجدُ كلَّ حليةٍ أو سلعةٍ أخرى, قد دُوِّنَ عليها ثَمَنَها، فمَا عليكَ إلاّ أن تأخذَها وتُنقدَهم ثَمنَها حسبَما سُجِّل.
ذهابُنا مَع كوان إلى مَصْنَع العَاج
قدِمَ مستر كوان بناءً على طلبِنَا، في تمامِ الساعةِ السابعةِ والنصفِ مساءً، ورافقنَا إلى مصنعِ العاجِ لكيْ يصيرَ الدفعُ أمامَه، لأنّهُ هو الذي سيشحَنُ لنا القطعَ العاجيّةَ الاثنتي عشرة.
وقد وقَّعَ مستر كوان إمضاءَه على كلِّ قطعةِ عاج، لكيّ لا يستبدلَها أصحابُ المصنع، فيما إذا كانوا غيرَ أمناء، لأنّّنا لا نعرفُهم ولا يعرفوننَا، قبلَ اليوم. ونقَدْناهُم دفعةً كبيرةً من الدولاراتِ الأمريكيّةِ على الحسابِ، واتّفقنا أن نبرقَ إلى هادي حجّار لكي يُحوِّلَ لهُم باقي الثمن.
لقد كانَ بإمكاني أن أبتاعَ عشرَ سيّاراتٍ مِنْ أفخرِ الأنواعِ بثمنِ هذهِ القطعِ الاثنتي عشرة. ولكنَّ حُبّي العظيمَ للفنونِ الجميلةِ من تماثيلَ منحوتةٍ، ولوحاتٍ زيتيَّة، ومحفوراتٍ عاجيّة، وكلَّ ما له صلةٌ بالفنِّ، جعلَنِي أبتاعُ هذهِ القِطَعَ العاجيَّةَ الثمينةَ التي بلغتْ الغايةَ في الإبداعِ ودِقَّةِ الصُنعِ.
صُعودي إلى الفُنْدُقِ للراحة
وعندمَا بلغَتْ العاشرةَ والنصفَ ليلاً، ذهبتُ إلى غرفتي بالفندقِ لأُدوِّنَ ملخَّصَ ما تَمَّ معي في هذا اليوم، ثمَّ لآخذَ قسطي من الراحةِ، تمهيداً لسفرِنَا في الغدِ إلى مدينةِ أوزاكا اليابانيَّة.
وها هي الساعةُ الآنَ الثانيةَ عشرةَ، منتصفَ الليل. فإلى الغدِ إنْ شاءَ الله.
في 12 آب 1969
في الطائرة إلى أوزاكا مروراً بتاييه
استيقظنا باكراً، ورتّبنا أمورَنَا، وحزَمْنَا حقائبنَا، ثم ركبنَا التاكسي إلى محطَّةِ الطيران. وبعدَ المعاملاتِ الرسميّةِ، دخلنَا الطائرةَ، وكانَ مكتوباً على هيكلِهَا الخارجي JAPAN AIRLINES أي (الخطوط الجويَّة اليابانيَّة). وهذه الطائرةُ تستوعبُ 120 راكباً.
وفي التاسعةِ والنصفِ تماماً، هدَرَتْ محرِّكَاتُها، وبدأتْ تسيرُ رويداً رويداً، ثمَّ زادتْ سرعتَهَا شيئاً فشيئاً إلى أنْ أطلقتْ عنانَهَا ما شاءَ لها الإطلاق، إذ على الطائرةِ، لتستطيعَ التحليقَ في الجوِّ، أن تجرِ على الأرضِ بسرعةِ 250 كيلومتراً في الساعةِ، وهذا ما فعلَتْهُ .
عشرُُ دقائقٍ مرَّتْ منذُ دوَّتْ محرّكاتُها حتى لحظةِ تحليقِهَا؛ وبعدَ مرورِ عشرِ دقائقٍ على طيرانِها، أعلَنَ المذيعُ أنَّ الطائرةَ تنطلقُ الآنَ بسرعةِ 850 كيلومتراً، وستحلِّقْ على إرتفاعِ 29 ألفِ قدم.
وقد قُدِّمَ لنا طعامُ الفطورِ المؤلَّفُ من القريدس البحريّ، وصحنٌ صغيرٌ منَ السلطةِ، وقطعةُ حلوى، ثمَّ نوعٌ مسلوقٌ من حشائشَ البلاد، مع فنجانٍ كبيرٍ من القهوةِ.
ورحتُ أنطُرُ من النافذةِ عَلِّي أرى شيئاً، ولكنّي لمْ أُشاهدْ سوى الغيومِ ذات الأشكالِ العجيبةِ وهي تسبحُ في متاهاتِ الفضاءِ اللانهائي. كانتْ الطائرةُ تحلِّقُ على عُلوِّ 29 ألفِ قدمٍ- فوقَ الغيوم- ولذا لا يمكنُ أنْ تُشاهدَ الأرضَ ما دامَ بساطُ السُّحُبِ الممتدُّ إلى ما لا نهايةٍ يحجبُ عنَّا رؤيةََ الأرضِ ومَن فيها.
إنَّ المسافةَََ بينَ هونغ كونغ وتاييه TAIPEH عاصمةُ طيوان TAIWAN هي 870 كيلومتراً، وقد قطعتْهَا الطائرةُ بساعةٍ وربع، إذ وصلنَا في الحاديةَََ عشرةَ إلاَّ رُبعاً. وكانتْ تُسمّى سابقاً جزيرةُ فورموزا القديمة التي كانتْ تحتلُّها اليابان، ثمَّ أصبحتْ معقلاً لشان كاي شك وجيشه الصيني الوطني الذي ما زالَ يحاربُ فكريّاً وعمليّاً الزعيم الصيني المشهور (ماو تسي تونغ).
هبطنَا من الطائرةِ، وأعلمونَا بأنّها ستمكثُ نصفَ ساعةٍ لتتزوّّدَ بالوقودِ، ثمّ تُواصلُ طيرانَهَا إلى أوزاكا. وقد ذهبنَا خلالَ هذه الفترةِ إلى متاجرِ المحطَّةِ التي تُباعُ فيها حُلى وخلافُها للسيَّاح والمسافرين، وابتعنَا بعضَ الحلي، وقفلنَا عائدين إلى الطائرةِ.
وفي تمامِ الساعةِ الحاديةَ عشرةَ والنصفِ، دوَّتْ محرِّكاتُ الطائرة، ثمّ درجَتْ وارتفعتْ نحوَ الأعالي. وفي الساعةِ الواحدةِ إلاَّ 10 دقائقَ- أي بعدَ مرورِ ساعةٍ على تحليقِنَا- أعلنتْ المذيعةُ أنّ الطائرةَ تحلِّقُ الآنَ فوقَ الأراضي اليابانيّة.
وبرزَتْ فجأةً أمامَ عيونِنَا جبالُ اليابان وهي مكلَّلَةٌ بناصعِ الغيوم. وفي الساعةِ الثانيةِ إلاَّ ثُلثاً بعدَ الظهر، برزَتْ ضواحي مدينةِ أوزاكا، فخفّفَتْ الطائرةُ سرعتَها، وأخذتْ تهبِطُ من الأعالي شيئاً فشيئاً، وكلّما ازدادتْ هبوطاً كلّما استعطنا مشاهدةَ ما هو تحتَنا.
كُنْتُ أرى آلافَ المنازِلَ منتشرةٌ في السهلِ العظيمِ الذي نطيرُ فوقَه. وكانتْ تبدو من هذا العُلوِّ بحجمِ عُلَبِ الكرتونِ الصغيرة. أمّا السيّارات التي كانتْ تدرجُ في الطُرُقِ فكانتْ بأحجامِ سيَّاراتِ الأولادِ التي تُقدَّمُ لهم هدايا في الأعياد. وفي تمامِ الساعةِ الثانيةِ هبطتْ بنَا الطائرةُ في مطارِ أوزاكا. وقد قطعنَا من تاييه إلى أوزاكا 1765 كيلومتراً وذلك بساعتين وربع. فتكونُ المسافةُ الكاملةُ التي قطعناها مِنْ هونغ كونغ حتَّى بلَغْنَا أوزاكا 2635كيلومتراً، وذلك بثلاثِ ساعاتٍ ونصف- أي بمعدَّل 750 كيلومتراً بالساعة. إنّ مدينةَ أوزاكا تُعدُّ ثانية مُدُنِ اليابان بإتّساع رُقعَتِها وعددِ قاطنيها إذ يبلغون نحو 3,160,000 نسمة. وهي مرفأٌ صناعيٌّ مهمٌّ.
خَبْصَا أضاعَ جوازَه
خرجنَا مِنْ محطَّةِ الطيرانِ، واستقلّينَا سيّارةً لتوصلَنَا إلى الفندقِ. وما كِدنَا نسيرُ حتَّى صرخَ الدكتور خبصا: جواز سفري، جواز سفري! وكان يبحثُ عنه في جيوبهِ وفي المحفظةِ، يُدخلُ يداً بجيبِ بنطلونه واليَدَ الأُخرى بجيبِ ستْرته. ثمَّ هروَلَ بإتِّجاهِ المحطَّة. وبعدَ انتظار ربع ساعة أو يزيد، عادَ والبسمةُ تعلو وجهَهَ، وأعلنَ أنّه نسيَ الجوازَ على طاولةِ الصرّافِ الذي حَوَّلَ عندَهُ الدولاراتِ واستبدَلَ بها عملةَ الينِّ اليابانيّة. فحمدنَا اللهَ على النجاةِ مِنْ مشكلةٍ كادتْ تُشوِّهُ سفرنَا وتُسبِّبَ لنا أتعاباً كبيرة.
تجوالي في شوارع أُوزاكا
حالَ وصولي إلى الفندق، اغتسلتُ وهرولتُ سيراً على الأقدامِ أجوبُ أرجاءَ المدينةِ، وأتفحّصُ معالمَهَا، وأدخلُ متاجرَهَا، وأتأمَّلُ سِلَعَهَا.
إنَّ متاجرَ هذه المدينةِ قد بُنيت في جوفِ الأرضِ، وهم ينزلونَ إليهَا بسلسلةِ أدراجٍ- أي إنَّ مدينةَ أوزاكا أخرى قد بُنيت تحتَ الأرض، فهي مدينتانِ بمدينةٍ واحدةٍ.
إنَّ نظافةَ المدينةِ الجوفيَّةِ تستلفتُ النظرَ، فهي برّاقةٌ كالمرآةِ، نظيفةٌ بكلِّ ما تعنيهِ هذهِ الكلمةُ. وهذا ما استرعى انتاهي منذُ اللحظةِ التي هبطتْ بها الطائرةُ في مطارِ أوزاكا، إذْ ما كدْنَا ندخلُ المبنى لنتمِّمَ معاملاتِ جوازاتِ السفر، حتى بَهَرتْنا روعةُ البناءِ المرصّعِ بأكملهِ بأفخرِ أنواعِ الرُخامِ، مثلما بهَرنا النظامُ السائدُ، والنظافةُ المثلى الباديةُ لكلِّ عيان.
وبأثناءِ تجوالنَا في هذهِ المتاجرِ، ابتعنَا بعضَ ما أثارَ اهتمامَنَا، ثمَّ قفلَ الدكتور خبصا عائداً إلى فندق (أوزاكا كراند أوتل)OZAKA GRAND HOTEL حيثُ نزلنَا. أمّا أنا فقلتُ له: أُريدُ أن أشبعَ نهمي مِنْ هذهِ المدينةِ.
سرتُ مدّةَ ساعةٍ ونصفٍ حتَّى أنهكني المسيرُ. وكنتُ أرى أفواجاً لا تُحصى مِنَ السيّداتِ والرجالِ وهم يجوبون الشوارعَ والمنعطفاتِ. وقد لاحظتُ أنّهم يتقيّدون تقيّداً تامّاً بإشاراتِ المرورِ، فهم نظاميّون بكلِّ ما تعنيهِ هذهِ الكلمةُ.
كما لاحظتُ، وأنا أُشاهدُ الألوفَ من المشاةِ، أنّ جمالَ النساءِ اليابانيّاتِ أقلُّ جدّاً من جمالِ النساءِ الصينيّاتِ اللواتي يملأنَ شوارعَ هونغ كونغ، فحسنُ هؤلاءِ ملحوظٌ، وقلّمَا تجدُ فيهِنَّ غيرَ جميلةٍ، أمّا اليابانيّاتُ فقلّمَا تجدُ فيهِنَّ الجميلةََ.
وهبطتُ درجاً تلاهُ آخرٌ ثمَّ آخرٌ، حتَّى بلغتُ متاجرَ في غايةِ الأناقةِ والذوقِ الرفيعِ، وقد رُتّبت السِّلعُ فيها بشكلٍ يُغري كلَّ من يراه. فابتعتُ منها ما أثارَ لُعَابي.
كما أنّي مررتُ بمتجرٍ مختصٍّ ببيعِ الفواكهِ، ولعجبي وجدتُ عندَهُ تيناً ضخمَ الحجمِ، إذْ تبلغُ الحبّةُ الواحدةُ منهُ مقدارَ ثلاثِ حبّاتٍ منَ التينِ اللبناني. وفي هذهِ المدينةِ، يُبَاعُ التينُ بالحبّةِ، إذ يبلغُ ثمنُهَا 70 قرشاً لبنانيّاً. وموزُهُم ضخمُ الحجمِ، تبلغُ الموزةُ منهُ حجمَ موزتين لبنانيتين، وثمنُ الواحدةِ 60 قرشاً لبنانيّاً.
عَوْدَتي إلى الفُنْدُق بالأُتُوبيس
وقفتُ في محطّةِ الحافلاتِ لأستقلَّ إحداهَا كيْ أعودَ إلى الفندقِ، وسألتُ أحدَ منتظري الأُوتوبيس: هل هذا الخطُّ يوصلُ إلى الفندقِ (أوزاكا كراندأوتل)؟ فأجابَنِي:نعم. وصعدْنَا معاً. وما عتّم أن أخرجَ من جيبِهِ دفترَ التذاكر، وقطعَ تذكرةً سلَّمَهَا إليَّ. فظننتُه مكلَّفُ الجباية، وناولتُه نقوداً، فامتنَعَ، فتعجّبتُ! ثم قدَّرْتُ أنّهُ راكبٌ عاديٌّ، وليسَ بجابٍ، وأنَّ دفترَ التذاكرِ الذي يحمِلُهُ هو دفترُ اشتراكِهِ السنويّ، وقدْ عَرَفَ أنَّني غريبٌ فقدَّمَ لي تذكرةً.
وبعدَ مرورِ ربعِ ساعةٍ، وكانَ الأوتوبيسُ مكتظّاً بالركَّابِ، تقدَّمَ نحوي وأمسكَنِي بيدي، وأبعدَ الناسَ لأستطيعَ السيرَ. وأنزلني، مشيراً بيدِهِ إلى ناحيةِ الفندقِ الذي أنزِلُ فيه، فودّعْتُه بيدي شاكراً حسنَ صنيعَه.
دخلتُ الفندق، والتعبُ آخذٌ منِّي كلَّ مأخذ، فاستلقيتُ على فراشي، واستغرقتُ في النومِ حتَّى صباحِ اليومِ التالي.
في 13 آب 1969
إلى المخزنِ الحكومي
نهضتُ في السابعةِ صباحاً، وبادرتُ إلى غسلِ وجهي وارتداءِ ثيابي. وفي السابعةِ والنصف، قُرعَ البابُ، ودخلتْ فتاةُ الفندقِ وهي تحملُ لنا طعامَ الفطور. وبعدَ أنْ تناولنَاه، نزلتُ والدكتورُ خبصا، واستقلّينا سيّارةً قاصدينَ المخزنَ الحكومي.
وقال لنَا المسؤولُ في الفندقِ: إنَّكُم تجدون في هذا المخزنِ كلَّ ما تطلبونَه، من أتفهِ شيءٍ إلى أثمنِ ما يمكنُ أنْ تفكّروا بهِ. وقد وصلنَا في التاسعةِ والرُبعِ، فأعلَمَنَا الموظَّفُ أنَّ المخازنَ في أوزاكا لا تفتحُ قبلَ الساعةِ العاشرة. ولنُمضي الوقتَ، دخلتُ أنا وخبصا إلى محلِّ مرطّبات، وتناولنَا فيه نوعاً من البوظةِ اليابانيّة ممزوجةً بقطَعٍ منَ البطّيخِ وفواكهَ أُخرى.
وبينَما كُنَّا نتناولُهَا، كانتْ الموسيقى اليابانيّةُ العذبةُ الألحانِ تُشنِّفُ آذان الجالسين في هذا المكانِ. حقّاً إنَّها ألحانٌ غريبةٌ عنَّا نحنُ الشرقيّين، ولكن ما يكادُ المرءُ يسمعُها حتَّى يشعرَ بعذوبةٍ عجيبةٍ تتملّكُ منهُ الحواسُ.
مكثنا في هذا المكانِ 45 دقيقةً، ثمَّ ذهبنَا إلى المخزنِ الحكوميّ.
مَتْجَرٌ هو أُعجوبةُ المَتَاجِر
ولَجْنَا هذا المتجَر، فماذا رأينَا؟!
- آلافُ الخلائقِ تموجُ فيه! وبضائعٌ لا تُحصَرُ، فيها ما لم تَرَهُ عينٌ، أو لمْ تَسمَعْ بترتيبِه الأنيقِ الدقيقِ أُذُن! كانتْ الحُلى متراكمةٌ وراءَ خزائنِهَا الزجاجيَّة، وهي تُعَدُّ بالآلافِ: فالماسُ، والزُمرُّدُ، والياقوتُ، والأماتيستُ، والجادُ، والكورالينُ، والكولدن ستون، واللابيس تملأُ الخزائن، وهي مُكدَّسةٌ تكديساً منظَّماً، وقد عُلِّقَ بكلِّ حِلْيةٍ قطعةٌ من الورقِ المقوَّى مدوَّنٌ عليها سعرُها بالينّ- وكلُّ 358 ين تساوي دولاراً أمريكيّاً واحداً.
وقد طُفنَا في هذا الطابقِ وشاهدنَا محتوياتِه، ولكنْ ماذا رأينَا يا تُرى؟ ذلك ما لا أستطيعُ أن أُعلمَ القارئَ به، إذْ زاغَ بصرُنَا لتعدِّدِ المعروضاتِ التي لا نهايةَ لها.
وهذا المخزنُ الحكوميُّ اسمه داميرو DAMAIRO ، وفيه ستُّ طبقاتٍ، وقدْ صعَدْنَا إلى طوابقَِهِ جميعاً، فإذا في كلٍّ منها بضائعٌ تختلفُ عمَّا في الطوابقِ الأخرى.
وبكلمةٍ موجزةٍ، كلُّ ما يتمنّى المرءُ أنْ يملكَهُ يُمكنُه أن يجِدَهُ في أحدِ هذهِ الطوابق.
ولو أردنا أن نرَ ما يحوي كلُّ طابقٍ من البضائعِ، إذَنْ لكانَ علينَا أنْ نمكثَ في كلِّ طابقٍ لا أقلَّ من ستِّ ساعاتٍ، ولكنّنَا طفناهُ بسرعةٍ صاروخيَّةٍ، أي أستغرقَ تجوالُنَا في طبقاتهِ الستّ ساعتين فقط، لضيقِ وقتنا.
خرجتُ من هذا المتجرِ وأنا أقول: حقّاً إنَّه أُعجوبةُ المتاجر! ولكنَّ الدكتور خبصا بادَرَ إلى القول: انتظِرْ حتى تصلَ إلى أميركا، وإذْ ذاك ستقولُ إنَّ هذا المخزنَ هو أُلعوبةُ أطفالٍ تجاهَ ما ستراهُ في بلادِ أمريكا العظيمةِ الثروات.
إلى القَلْعَة
أعلمَنَا المسؤولُ في الفندقِ بأنَّ ليسَ في مدينةِ أوزاكا ما يستحقُّ المشاهدةَ من المعالمِ إلاَّ القلعةََ ومعبدَ الإله شنتو. وفي الساعةِ الواحدةِ والنصفِ بعدَ الظهر، أقلّنَا أوتوبيس برفقةِ بعضِ السُيّاحِ، وأخذَ يسيرُ بنَا في شوارعَ المدينةِ، وأحدُ الأدلاّء يوضّحُ لنَا، أمامَ كلِّ مبنى جديرٍ بالمشاهدةِ، هويّةَ البناء، حتَّى وصلنَا أخيراً إلى القلعةِ. إنَّ مدخلَ هذهِ القلعةِ مترامي الأطراف، ذو أرجاءٍ فسيحةٍ تنتصبُ فيها أشجارٌ وارفةٌ. أمّا سورُهَا فقد بُني من حجارةٍ ضخمةٍ ذكّرَتْني بحجارةِ هرم خوفو المصري.
كذلك فيها حجارةٌ ضخمةٌ للغاية، قلتُ في نفسي، حالَ رؤيتي إيّاها: ما أشبَهَهَا بحجارةِ بعلبك الماردة، وإنْ تكنْ أصغرَ منها قليلاً!
صعدنَا إلى القلعةِ التي قدَّرتُ علوَّها بخمسةٍ وسبعينَ مِتراً، فإذا هي ذاتُ غُرفٍ فسيحةٍ تملأُ ردهاتِها رسومٌ فنّيةٌ يدويّةٌ تشرحُ ما وقعَ فيها من أحداثٍ في العصر الغابر، ذلك لأنَّها بُنيت في القرنِ السادس عشر. فقدْ انتصرتْ هذه القلعةُ في جميعَِ الحروبِ التي نَشَبَتْ ضدَّها، بفضلِ تحصينِها المنيع، وموقعِهَا الأمين، وعجزَ العدوُّ عن فتْحِها.
وقد صعدنَا إلى أعلى غرفةٍ فيها حيثُ يقومُ متجرٌ تُباعُ فيه العاديّاتُ والرسومُ المختصّةُ بتاريخِ هذهِ القلعةِ المتينةِ البُنيانِ العظيمةِ التحصين.
إلى مَعْبَد الإِله شنْتو
ثم هبطْنَا مِنَ القلعةِ بعدما أخذنَا لها رسوماً فوتوغرافيَّةً وسينمائيَّةً، وانطلقوا بِنَا إلى معبَدِ الإله شنتو.
إنَّ مدخَلَ هذا المعبدِ رحبٌ، وقبلَ أنْ تَلِجَ صحنَه الداخليّ يستقبلُكَ جبّاران من الحجر المنحوت: ماردان عملاقان يُسدِّدان إليكَ نظراً ناريّاً، وقد اكتسى جسداهُمَا بشتّى الألوانِ الحادّةِ.
سِرْنَا في رَواقٍ طويلٍ انتهينَا منهُ إلى معبدٍ نُصِبَ في باحتهِ الداخليَّة تمثالٌ ذهبيٌّ عظيمٌ لبوذا مؤسِّس الديانة البوذيّة.
حالَ دخولِنَا، رأينَا بوذيّاً يقرعُ، بمطرقةٍ حديديّةٍ صغيرةٍ، آلةً نحاسيّةً، فيُسمَعُ لها رنينٌ عجيبٌ ذو إيقاعٍ غريب. وبينَ الطرقةِ والأُخرى كانَ يُردِّدُ صلاةً بصوتٍ مسموعٍ، ثمَّ يعودُ ليطرقَ آلته ذاتَ الإيقاعِ فيخرجُ نغمٌ غريبُ الرنين.
وفجأةً يصفِّقُ هذا الكاهنُ بيديهِ ليعودَ فيتمتمُ صلاتَه الخشوعيَّة.
وعلى جانبي يوذا ينتصبُ رجلانٌ عملاقان، الواحدُ تجاهَ الآخر: إنّهُمَا صنمان!
وقد فهمْنا من الدليلِ الذي رافقنَا أنَّ هذا الكاهنَ كانَ يُصلِّي لإحدى النساء، إذْ نَقَدَتْهُ أجرَه، بعدَ انتهائِه مِنَ الصلاةِ لأجلِها!
خرجْنَا منَ معبدِ الإله شنتو، ثمَّ استقلَّينَا السيّارةَ قافلين إلى فُندقِنَا. وكانتْ الساعةُ، إذ ذاك، الرابعةَ والنصف، أي استغرقتْ رحلتُنا ثلاثَ ساعاتٍ كاملةٍ. وما بلغتُه حتىَّ كانَ العرقُ يتصبَّبُ من جميعِ أنحاءِ جسدي بغزارةٍ وأيَّة غزارة! لأنَّ الحرارةَ كانتْ، وقتئذٍ، 35 درجةٍ مئويَّة. وحالَ وصولي استحممتُ، ثمَّ رقدتُ في فراشي لآخذَ قسطي من الراحةِ التي كنتُ بأمسِّ الحاجةِ إليهَا.
جولةٌ ليليَّةٌ
في الساعةِ التاسعةِ ليلاً، تناولتُ أنا والدكتور خبصا عشاءً دسماً تنوّعتْ فيه الأصنافُ. كما أني طلبتُ مِنَ النزلِ بصلةًً أُحضرتْ لي مفرومةً بآلةٍ خاصَّة، بحيث ملأتْ قصعةً حجمُها لا بأسَ به. إنَّ طعمَ البصلِ الياباني لذيذٌ، فهو غيرُ حرّيفٍ، وممكنٍ أكلهُ كالطماطم دونَ أنْ يََشعُرَ المرءُ بلذعهِ كالبصلِ الشَّرقي.
وعشاؤنا تناولناهُ في الطابقِ الرابع عشر منَ الفندقِ الذي كُنَّا ننزِلُ في الطابقِ السادسِ منه، وفي الغرفةِ ذاتِ الرقم 623.
وبعدَ امتلاءِ معدتينَا بالطعام، سألنَا أحدَ موظَّفي الفندقِ عمَّا إذا كانَ ثمَّةُ مخازنٍ ما تزالُ مفتوحةً في مثلِ هذهِ الساعةِ. فأجابنَا أنَّ كلَّ متاجرِ أوزاكا مُغلَقَةٌ عدا شارعٌ واحدٌ فمتاجرُهُ تبقى مفتوحةً حتَّى العاشرة، ثم تقفلُ بعدها. فاستقلَّينا سيَّارةً واتَّجهنَا إلى الشارعِ المذكور. وحالَ وصولِنَا شاهدنَا المتاجرَ فيه ما تزالُ تستقبلُ المشترين.
وتقومُ هذه المتاجرُ تحتَ قنطرةٍ عظيمةٍ لا يقلُّ طولُهَا عنِ الكيلومترين، متتابعةٌ آلافُها على الجانبين. فسِرْنا الهوينَا ونحنُ نُطيلُ النظرَ في كلِّ متجرٍ منها، وعندمَا كانَتْ بعضُ السِّلَع يسترعي انتباهنا، كنَّا ندخلُ المتجرَ ونسأل عن ثمنِهِ.
كان الشارعُ يموجُ ببشرٍ لا يُحصى لهم عدٌّ، كأنّهم البحرُ العجّاجُ وهو يتدفّقُ بأمواجهِ المتدافعة! فعجبنَا لهذا العددِ الهائل، واستفسرنَا صاحبَ أحدِ المتاجرِ عن سببِ كثرتِهِم البادية للعيان، فأجابَ: إذا عرفتُم أنَّ مدينةَ أوزاكا تحتوي سبعة ملايين نسمة، فإنَّ عجَبَكُم، إذ ذاك، يزولُ! كما أنَّه يخرجُ منها، كلَّ يومٍ، مليونُ شخصٍ مِمَّنْ يقطنون في ضواحِيهَا.
إنَّ ما لَفَتَ نظري، حقّاً، هو عدمُ إهتمامِ أي صاحب متجرٍ بأيِّ شخصٍ يقفُ على بابِ متجره. إذْ كنَّا نقفُ أمامَ معروضاتِ متجرٍ ما ننظرُ ما رُصِفَ بداخله، وكُنَّا نظنُّ أنَّ المستخدَمَ سيستدعينَا ويُغرينَا بالدخول. ولكنَّ هذا الأمرَ لمْ يحدثْ على الإطلاق، لأنّنا كُنَّا ندخُلُ ونُشاهدُ السلعَ ونُمسكها بأيدينا، ونقلِّبُ أوراقَ أثمانِها دونَ أن يُعيرَنَا أيُّ موظَّفٍ أقلَّ اهتمام، إلاّ إذا سألناهُ، فإذ ذاك كان يأتي فوراً ويجيبُنَا على أسئلتِنَا بأدبٍ تامٍّ ولطفٍ فائق. وهذا يبرهنُ أنَّ اليابانيّ يحترمُ نفسَهُ للغايةِ، ولا يتبذَّلُ قطعاً. وهذا تحقّقتُه من الفندقِ إذْ وُضِعَ فيه إعلانٌ كبيرٌ كُتِبَ عليه: البخشيشُ غيرُ مقبولٍ على الإطلاقِ لأنَّ العشرةَ بالمئةِ المحسومةِ على النزيلِ هي كافيةٌ للمستخدمين. كما أنَّنِي لاحظتُ بعَجبٍ أنه لا توجدُ أيّةُ امرأةٍ تقودُ سيّارةً، على الإطلاقِ، فالقيادةُ هي للرجلِ وليسَ للمرأةِ .
فأينَ المرأةُ الشرقيةُ والغربيّةُ لترَ عيناها ما رأيناه وتسمعَ ما سمعناه! كذلك فالتهتّك لم ألمسه في اليابان البتّة، ولم تتبذَّل أيّة أمرأةٍ بعرضِ نفسها، مثلمَا يجري في كلِّ دقيقةٍ من دقائقَ النهارِ في مدينةِ هونغ كونغ العجيبة. وهذا أمرٌ تُشكرُ عليه اليابان حكومةً وشعباً.
وأمرٌ آخرٌ لفَتَ نظري هو وجودُ المتاجرِ تحتَ الأرض! كذلك يقومُ بعضُ المتاجر على سطحِ الأرض، كما الحالُ في لبنان والشرق، ولكنَّهَا قلّة. وبعدمَا طُفْنَا في هذا النفقِ- القنطرة العظيم بازدحامه وطوله- قفلنَا عائدين بالسيّارةِ إلى الفندقِ، فبلغنَاهُ في العاشرةِ والنصفِ.
وللحالِ جلستُ أُدوِّنُ حوادثَ هذا اليوم قبلَ أنْ أنام. وها هي الساعةُ الآنَ الحاديةَ عشرةَ والنصفِ ليلاً، وقد انتهيتُ من آخرِ كلمةٍ دوّنتُها من وقائعَ اليوم.
في 14آب 1969
إلى مُتحفِ أُوزاكا ثم إلى كيوتو
استيقظتُ صباحاً، وللحالِ بادرتُ إلى ترتيبِ حقائبي تمهيداً لسفرنَا إلى مدينةِ كيوتو حيثُ سينعقدُ المؤتمرُ الطُبّي للأمراضِ الجلديّة، وسيحضُرُه أخي الدكتور خبصا.
وقد طلبتُ من الدكتور أن نذهبَ إلى مُتحفِ أوزاكا قبل سفرِنَا، فاستقلّينا سيّارةً أوصلتْنَا إلى المتحفِ الذي كان يبعدُ عن فندقِنَا مسافةَ ثُلثِ ساعةٍ بالسيّارة، فإذا هو ضخمُ الهيكلِ تُحيط به أحراجُ متسعةُ الآفاق.
ولجنا المتحفَ بعدما قطعنَا تذكرتَيْ دخول، وكانتْ معروضاتُ الطابقِ الأرضي أشغالَ اللاك اليابانيّة القديمة، وأشغالَ العُلبِ الخشبيّة، واللوحاتِ المصوّرة التي تُزينُ البيوتَ، وهي مرصّعةٌ بالصدفِ والعاجِ. وفي الطابقِ الثاني تماثيلُ الآلهةِ والإلهاتِ يضمُّها الجناحُ الأيسر. أمّا الجناحُ الأيمنُ فقدْ عُرضَتْ فيه اللوحاتُ الزيتيّةُ القديمةُ والمعاصرةُ، وقد عددتُ ما عُرِضَ مِنْهَا فكانَ 250 لوحة. خرجْنَا من المتحفِ، وانتظرنَا، أكثرَ مِنْ رُبعِ ساعةٍ، مرورَ تاكسي لنستقلَّه، ولكنْ عبثاً كانَ انتظارُنا. فقد مَرَّتْ مئاتُ التاكسيّاتِ ولكنَّهَا بأكملِها تُقلُّ رُكَّاباً. فاضطررنَا لأنْ نسيرَ مسافةَ نصفِ ساعةٍ حتَّى وصلنَا إلى الطريقِ العام، وهناكَ انتظرنَا أكثرَ من ثلثِ ساعةٍ تحتَ الشمسِ المُحرقة، وكانتْ الحرارةُ 35 درجةٍ مئويَّةٍ سجّلهَا ميزانُ الحرارةِ الذي أحملُه. وقد شعرتُ أنَّ رأسي يكادُ أن يتفجَّرَ لشدَّةِ القيظ، وأصبحَ وجهي أحمرَ اللون، وأحسستُ بضيقٍ شديدٍ ينتابنُي. وأخيراً، مرَّ تاكسي ليسَ فيهِ أيُّ راكبٍ، فاستقلّيناه عائدين إلى الفندقِ، وكانتْ الساعةُ الثانيةَ عشرةَ إلاّ رُبْعاً. طلبنَا منَ الموظَّفِ أنْ يستأجرَ لنا سيّارةً تُقلُّنا إلى كيوتو، وسرعانَ ما أحضرهَا، فاستقلّيناها مع حقائبنا. وكانتْ الساعةُ إذ ذاك، الثانيةَ عشرةَ ظُهراً.
إنَّ الطُرُقاتِ في اليابان مُتْقَنة إتقاناً مُدهِشاً، ومدروسةٌ وفقَ تخطيطٍ هندسيٍّ في غايةِ الإبداع. كنّا نُمتِّع بصرَنا بمشاهدةِ الحقولِ الشاسعة، ونمرُّ بجبالٍ هي أشبهُ بالتلالِ إذ إنَّها ليستْ مرتفعةً، وكانتْ الخضرةُ الجميلةُ تكسوها. وفي تمامِ الساعةِ الواحدةِ إلاَّ رُبعاً، وصلنَا إلى كيوتو، ومكثتْ السيَّارةُ تسيرُ بنا رُبعَ ساعةٍ أخرى حتَّى وصلنَا إلى فندقِ كيوتو، فترجّلنا، وأسرعَ الحمَّالُ بنقلِ حقائبِنا إلى غرفتِنا ذات الرقم 13.
ثَلاثُ سَاعَات من النَّومِ العميق
انطرحتُ على سريري وأنا شاعرٌ بأنَّني محتاجٌ إلى النوم، وما لبثتُ أنْ دخلتُ في عالمٍ آخر. وعندَ يقظتي كانتْ الساعةُ الرابعةَ ونيّفاً، أي أنّني استغرقتُ في النومِ ثلاثَ ساعاتٍ كاملة. وهبطتُ مع الدكتور خبصا إلى متجر الفُندقِ، وهو يقعُ في الطابقِ الأوَّل، فإذا هو غنيٌّ بمحتوياتِه، رائعٌ في تنظيمه، نُسِّقَتْ فيه المعروضاتُ بشكلٍ مُغْرٍ. تناوَلنَا العَشاء في مطعَمِ الفندق، وكان عشاءً دسِماً اختتمناهُ بطلبِ قطعَتي بطّيخ، من النوعين الأصفر والأحمر، لكلِّ منَّا، فإذا ببطيّخ بلادنا أحلى مذاقاً.
في أسْوَاقِ كيُوتو الليليَّة
وخرجتُ مع الدكتور خبصا نجولُ في أسواقِ كيوتو، ونجوبُ شوارِعَها، وندخلُ مطاعِمَها، ونُجيل أبصارُنا في كلِّ ما نراهُ أمامنَا مِنْ معروضاتٍ. وقد شبّهتُ هذه الأسواقُ، في الناحيةِ التي جبناها، بسوقِ سرسقٍ في بيروت. فهي مكتظَّةٌ بالناس، والمعروضاتُ من الجهتين مكدَّسة، وهي ذاتُ أصنافٍ وأنواعٍ متعدِّدَة.
ومثلما لمستُ في أوزاكا شاهدتُ هنا، إذ لا يلتفتُ صاحبُ المتجرِ أو موظَّفوهُ إلى الشاري، ولا يكلِّمونَه، أو يُغرونَه بمشترى سِلَعَهُم، على الإطلاق، ولكن إذا ما سألَ واحدٌ عن سلعةٍ بادروا إليه بالجوابِ فوراً. وقد مررنَا بعدَّة حوانيتَ مختصَّةٍ ببيعِ الفواكِه والأثمار، كالبطّيخ الأحمر والأصفر، والأناناس، والعنبِ الأبيضِ الكبير الحجم، والأسود الصغير الحجم، ونوع كالبرتقالِ لا نعرفُه في بلادِنا، حبّتُه بحجمِ البرتقالةِ ومذاقُه ذو حلاوةٍ معتدلة، والتين الضخم الحجم، ثمَّ الموز العجيب بطوله، إذ قستُ بالمترِ بضعَ موزات منه، فكانت الموزةُ بطول 24 سنتمتراً، وقد سألتُ صاحبَ الحانوت عمَّا إذا كان هذا الموزُ من اليابان، فأجابني أنه يُستَوْرَدُ منَ الإكوادور. ثمَّ رأيتُ الفِجلَ، فإذا الفجلةُ يزيدُ طولُها على 50 سنتمتراً، وهي بيضاءٌ كالثلج. والبصلُ مستديرٌ، وحجمُه كبيرٌ، وطعمُه لا لذعةَ فيه كبصلِ بلادِنا. وغير ذلك من الفواكِه التي لا نعرفُ عنهَا شيئاً في لبنان. وبعدَ أنْ أنهَكَنا السيرُ عُدنَا إلى الفندق، وأوَيْنا إلى سريرينا على أملِ بزوغ فجرٍ جديد.
في 15آب 1969
أنا والدكتور خبصا في صالون الحلاقة
نهضتُ من فراشي متأخِّراً، لأنَّ المتاجرَ في اليابان لا تَفتَحُ أبوابَها قبلَ العاشرة صباحاً. وبعدَ أن اغتسلتُ، بادرتُ إلى تدوينِ حوادثَ اليومِ السابق، تمهيداً لنشرِ رحلتي هذه في كتاب سأصدِرُهُ، إنْ شاءَ الله، بعدَ عودتي إلى لبنان.
نزلتُ، يرافقُني الدكتور خبصا، إلى حلاَّقِ الفندق، بقصدِ قصِّ شعري وحلاقةِ ذقني، وإذا بفتاة يابانيَّةٍ شابَّةٍ تدعوني للجلوس على كرسيِّ الحلاقة، ثمّ تبدأُ عمليّةُ قصِّ شعري، وزميلُها أجلَسَ الدكتور خبصا وشرعَ يقصُّ له شَعْرَه.
وقد استغرقتْ عمليَّةُ قصِّ شعري بيدِ هذه الفتاة عشر دقائقَ تماماً. ثمَّ رفعَتْ لولَبَ الكرسيّ وأدارَتْه للوراء، فإذا بي مُمَدَّدٌ على هذه الكرسي مثلما يتمدَّدُ المرءُ على الفراشِ تماماً. وهذا ما لا نعرفُه عندَ حلاّقي بلادنا، سواءً أكانَ في لبنانَ أم القاهرة أم سواها من البلدانِ العربيّة.
وأمسكتُ بالموسى وراحتْ تحلقُ لي حلاقةً أُصوليَّة، ولكن بنعومةٍ فائقةٍ لم أرَ لها مثلاً. وبعدما انتهَتْ، أحضَرَتْ آلةً كهربائيَّة وضَعَتْها على عنقي من الوراء، وضغطتْ على الزرِّ فدار مُحرِّكُ الآلة. وأخذَتْ تُمِرُّها على عُنُقي فكتفي، ثمّ جعلتْ تُربِّتُ عليهما تربيتاً لطيفاً. وأخيراً، أحضَرَتْ قطعةَ قِماشٍ من نوعٍ المناشف، وقدْ لُفَّتْ بعناية، ففتحتَها ووضَعَتْها على وجهي. فإذا هي ساخنةٌ يتصاعدُ البخارُ منها. وفي النهاية، أحنَتْ رأسَها، ثمّ بسَطَتْ يدَها نحوي، وهذا يعني أنّها انتهَتْ من عمليَّة الحلاقة، وقد استغرقتْ حلاقةُ ذقني 20 دقيقة.
وكان الأجرُ 700 ين لقصِّ الشعر و600 ين لحلاقةِ الذقن- والينُّ يساوي قرشاً لبنانيّاً- أي ثلاث عشرة ليرة عن قصَّة الشعر والحلاقة. بينما كنتُ أدفعُ في لبنان، شهرياً، مبلغ عشرين ليرة. فانظرْ كمْ هو الفرقُ بينَ بلادنا وبلاد اليابان.
مَتْجَرُ كيوتي مُدهِش
تركْنَا صالونَ الحلاقةِ أنا والدكتور خبصا، وسرنَا على أقدامِنا في شوارعَ كيوتو الجميلةِ والبالغةِ النظافة. فأنت لا تستطيعَ أن ترى ذبابةً واحدةً في طولِ البلادِ وعرضِها، وهذا مِمَّا يدعو إلى الدهشةِ العُظمى. كما أنَّهُ لا يمكِنُكَ أن ترى شحّاذاً واحداً، في أيِّ شارعٍ مرَرْتَ أو أيِّ مكانٍ إليه ذهبت.
وما أدهَشَني وأثارَ إعجابي الشديد هو سلوكُ المرأة اليابانيّة، فهي مثاليّةٌ بسلوكها، إذ لا يُمكِنُكَ أن ترى يابانيّة مُتَبذِّلَة، تُحاولُ إغراءَكَ بأنوثَتِها أو لفتِ نظرِكَ إليها. فهي، من هذه الناحيةِ، لا مبالية، ولا يمكنُ وصمَها بوصمةِ التبذُّلِ، على الإطلاق، وهذا ما تُشكَرُ عليه. فاحترامُها لنفسِها بهذا المقدارِ يفرضُ عليكَ احترامَها التامّ، شئتَ أم أبيتَ.
ومكثتُ والدكتور خبصا سائرين على غير هدى، إلى أن بلغْْنَا مكاناً احتشدتْ الناسُ أمام أبوابِه، وقرأنا على المدخَلِ DAMAIRO ، فعرفنا أنَّهُ المخزنُ الحكوميّ وهو تابعٌ للمخزنِ الذي دخلناهُ في أوزاكا. وقد صعَدْنا إليه فإذا هو ستّةُ طوابق. وفي كلِّ طابقٍ من التُحَفِ ما لا يقعُ تحتَ حصر. وقد ابتعنَا ما راقنَا مِنْهَا، ثمَّ خرجنَا، وعُدنَا سيراً على الأقدامِ إلى فُندُقِنا.
تَناوَلْنَا العشَاءَ عندَ الجَيْشا
أعلمتنَا إدارةُ الفندقِ أنَّه بإمكانِنا أن نَذهبَ لمشاهدةِ فتياتِ الجيشا وزيارةِ أمكنةٍ أخرى لقاءَ 16 أمريكيَّا عن كلِّ شخص، فوافقنَا الإدارة. وفي الساعةِ السادسة والنصفِ مساءً ذهبْنَا أنا والدكتور خبصا وسبعةَ عشرَ سائحاً إلى مقرِّ فتياتِ الجيشا حيثُ تناولنَا العشاء.
قبلَ دخولنا، طُلبَ منَّا أن نخلَعَ أحذيتنَا، ففعلنَا، وسِرنَا في ممرّات ضيّقة كانتْ تصلُ من أبوابِها فتياتُ الجيشا ليرينَ القادمين. وانتهينَا، أخيراً، إلى قاعةٍ كُبرى وُضِعَتْ في أرضِها طاولاتٌ منخفضةٌ ومستديرةٌ قطرُ كلٌّ منها 150سنتمتراً، وفي منتصفِها فجوةٌ مستديرةٌ قُطرُها 35 سم.
وجلسْنَا حولَ هذه الموائد. وكان جلوسي أنا والدكتور خبصا حولَ مائدةِ يجلسُ أمامَها طبيبٌ من سنغفورة مع شقيقتِه وزوجتِهِ التي أظنُّها صينيّة.
وما عتَّمت أن اقتربتْ من مائدتِنا امرأةٌ يابانيّة، وهي تحملُ مَنْقَلاً من النار وضعَتْهُ في فجوةِ المائدةِ التي نجلسُ حولَها. وكان أمامنا طبقٌ معدنيّ وُضِعَتْ فيه لحوم، وقِطَع من البصل المفروم، وبعضّ الحشائش اليابانيّة، فجعلتْ اليابانيّةُ تأخذ من هذا الطبق، وتضعُه في القدرِ الموضوعةِ فوقَ نارِ الفحمِ في فجوةِ المائدة. وبعدَ بضعِ دقائق، قلبَتْ اللحوم والحشائشَ للناحية الأخرى وترَكتْها بضعَ دقائق. ثمّ ناولتني كأساً من البورسلين، وسألتني إذا كنتُ أريد بيضة، فردّدتُ بالإيجاب، فأخذتْ بيضةً من الصحنِ الموجود فيه بضعَ بيضات، وكسَرتْها، وكانت نيئةً، ووضعَتْها في كأسي، ثمّ سكبَتْ فوقَها لحماً وبصلاً وحشائش، وكانت جميعُهَا ناضجة، والبخارُ يتصاعدُ منها.
وفعلتُ مع البقيَّةِ ما فعلَتْهُ معي. وكان مذاقُ الطعامِ جيِّداً ومقبولاً، ولكنِّني ما استطعتُ أن أتناولَ الطعامَ بالخشبتين الطويلتين اللتين يتناولُ بهِما اليابانيّون والصينيّون طعامهم، وقد لاحظتْ المرأةُ ذلك، فأسرعَتْ وأحضَرَتْ لي شوكةً أكملتُ بها تناولَ طعامي.
وبأثناءِ الطعام، دخلتْ فتاةٌ من الجيشا، وقد طَلَتْ وجْهَهَا وعُنْقَها وبالبودرة بصورةٍ واضحةٍ للغاية، وأظنُّها عادةَ الجيشا ليُعرَفْن. وقد جَلَسَتْ الجيشا معنا حولَ الطاولةِ، وسألَتْ كلاًّ منّا عن بلدِه. ونحنُ بدورِنا كنَّا نطرحُ الأسئلةََ عليهَا، فتجيبُنا بأدبٍ ورقّةٍ ولطف. ففتياتُ الجيشا في اليابان لهنّ مدرسةٌ خاصَّة يتلقَّين فيها آدابَ الحديث والسلوك. وفتاةُ الجيشا مُلِمَّةٌ بكلِّ شيء، ولها باعٌ لا بأسَ به بالفنِّ ومعرفةٌ بأصولِ الإجتماع.
وهكذا فعلَتْ مع السيَّاحِ الذين قدموا معنا، إذْ كانتْ تجالسُ كُلاًّ منهُم بضعَ دقائق، ثمَّ تذهبُ إلى سواه. وبعد قليلٍ، دخلتْ امرأةٌ هي المحافظةُ على فتاةِ الجيشا، وكانتْ تحملُ آلةً موسيقيَّة يابانيَّة، فعزفتْ عليها لحناً وهي تُغنّي، ورافقتْها فتاةُ الجيشا برقصِها رقصاً إيقاعيّاً على أنغامِ الآلةِ الغريبةِ الألحان، وهي تقومُ بحركاتٍ فنيّةٍ بيدِها تحملُ بها مروحةً ملوَّنةً مفوحة. وأخيراً، انتهتْ من رقصِها المُبدِع. وانتصبَ الترجمانُ الذي صحِبَنا في الأوتوبيس، وقال: الآن سأعلِّمُكُم رقصةً يابانيّةً طريفة. وطلبَ من الجميع الوقوفَ ليبدأَ بإعطائهِم الإرشادات. فامتنعتُ أنا والدكتور خبصا، ومكثْنَا جالسين.
فاقتربتْ الجيشا منّي وطلَبَتْ أن أقفَ لأتعلَّمَ، فاعتذرتُ، وهنا ابتدأَ الفصلُ الهزلي، إذ راحَ الترجمانُ العجوزُ يضربُ كفّاً على كفّ، طالباً من الجميع أن يحذوا حذوَه. وصارَ الجميعُ يضربونَ أكفَّهَم. ثمَّ رفعَ رجلَه اليُمْنَى وضربِهَا بالأرض، ثانيةً، ثمَّ رفَعَ رجلَه اليسرى.
وكنتُ أنظرُ إلى الحمقى من هؤلاءِ السُيّاحِ وهم يقلِّدون الترجمان في أفعالِه، ثمَّ يرفعون عقيرَتَهم بالغناءِ، مردِّدينَ الكلماتِ نفسها التي كان يردِّدُها.
وكانتْ بقرةٌ افرنسيَّة مترهّلةُ الجسدِ تضربُ بقدَمِها أرضَ الغرفةِ الخشبيَّة، فتترنَّحُ هذه الغرفة تحتَ وطأة ثِقلِها الكريه، وما استحيتْ من أن تتمايلَ وهي تقرعُ الأرضَ بقدميهَا الغليظتين، رافعةً عقيرتها بالغناءِ الممجوج!
وفي النهايةِ، اختُتِمَ هذا الفصل الذي كاد أن يُزهقَ أنفاسي. وخرجنَا ليقلَّنَا الأوتوبيسُ إلى مسرح يابانيّ.
في مَسْرَح التَّمثيل اليابانيّ
كانت الساعةُ الثامنةَ والنصفِ ليلاً عندمَا وصلنَا إلى المسرحِ جيونكورنر GIONCORNER، وكان غاصّاً بالسُيَّاحِ الأمريكان والإنكليزِ وغيرِهِم. فجلسْنا ننتظرُ. وإذا بفتاةٍ يابانيَّةٍ تقتربُ وبيدِها قصعة، فتطلبُ من سائحين أن يجلسا على مائدةٍ ويضعا القصعةََ أمامَهمَا. فدنَا سائحٌ وسائحةٌ وجلسَا على المائدةِ. وكانتْ امرأةٌ يابانيّةٌ تجلسُ أمامنا، وقد وضَعَتْ قِدرَين على النار. وكان بيدِهَا مغرفةٌ جعلَتْ تأخذُ بها شيئاً من إحدى القِدرين، وتسكبُه في القِدرِ الأخرى، ثمّ تُضيفُ إليهما بعضَ الأعشاب. وبعدَ بضعِ دقائق، سكبَتْ في كأس بورسلين ما في القِدر، وسلّمَتْها إلى فتاة أخذتْها وانحنتْ أمام السائحة. فانحنتْ السائحةُ بدورها وراحتْ تشربُ ما فيها، وبعدَ دقائقَ أخَذَتْ كأساً أخرى للسائح، ففعلَ ما فعلتهُ السائحة. وقدْ قيل لنا: إنّنا ندعكم تشاهدونَ كيف يتمُّ الطبخَ اليابانيّ الأصيل.
وأُزيحَ الستارُ عن المسرح، وإذا بشابّتين يابانيّتين جلستْ كلٌّ منهُما وراءَ آلةٍ موسيقيّةٍ، وراحتَا تعزفان ألحاناً يابانيّة حزينةً طوالَ ثلثِ ساعة. وقد ظهرتْ في هذه الأثناءِ فتاتان رقصتا على أنغامِ هذه الموسيقى العذبة. ثم أُنزلَ الستارُ، ليعودَ فيرتفعُ على مشهدِ قتالٍ بينَ أشخاصٍ ثلاثةٍ امتشقوا السيوفَ، وملأَ صياحُهم رحابَ القاعةِ، ثمّ انحنوا، وأُعلنَ أنَّ الحفلةَََ التمثيليّةَ قدْ انتهتْ.
إلى كبارِه ليليّ
واستقلّينا الأوتوبيسَ إلى كباره بل امي BEL AMI الليلي. دخلنَاه فكانتْ أضواؤُه خافتةً، والناسُ يملأون أركانَه، وبشقِ النفسِ وجدْنَا طاولةً جلسنَا وراءَها ننظرُ إلى الشُبّانِ الخمسةِ على المسرح، وهم يمزّقون الجوَّ بأصواتِ غِنائِهِم الياباني، ولكنْ على الطريقةِ الأمريكيّة. فكمَا يظهرُ أنَّ الجيلَ الجديدَ قد تأثّرَ بأمريكا، فراحَ يقلّدُها بشتّى مرافقِ حياته.
لم أُعجبْ بالضوضاءِ والغناءِ المالئين جوَّ القاعة، وخصوصاً أنَّني، بطبيعتي، أكرهُ هذه الأماكن، ولا أرغبُ بمشاهدِتها على الإطلاق. فطلبتُ من الدكتور خبصا أنْ نغادرَ المكانَ، ففعلَ فوراً. غادرنا هذا الملهى، وعُدنَا إلى فُندُقِنا. وعِندَ بلوغِنا إيّاه كانتْ الساعةُ العاشرةَ والنصفِ ليلاً.
في 16آب 1969
حُلُمٌ مُرَوِّعٌ
استيقظتُ باكراً إثْرَ حُلمٍ رهيبٍ حَلمتُه وما استطعتُ بعدَهُ نوماً.
إنَّ عالمَ الأحلامِ ما يزالُ مُغْلقاً على الإنسان، لم يستطعْ أحدٌ أن يحطِّمَ قيوده. وقدْ ذهبَ علماءُ الأحلامِ في تفسيرها مذاهبَ شتّى، كلٌّ حسبَ اجتهادِه. كما أنَّ فرويد FREUD خبَطَ خبْطَ عشواءٍ في تفاسيرِهِ للأحلامِ وتآويلها، إذ أرجعَها للناحيةِ الجنسيّةِ.
فكلُّ هاجسٍ، في رأيهِ، مَردُّهُ إلى الجنسِ، وكلُّ نأمةٍ سببُها الجنس، وكلُّ حُلمٍ سواء أكانَ جيّداً أم خبيثاً مرجعهُ الجنس!
والخلاصةُ، لم يستطعْ أيُّ عالم نفساني، أو مُؤوّل للأحلامِ أن يأتينَا بتفسيرٍ حقيقيٍّ صحيحٍ لما نراهُ في أحلامِنا. أمّا أنا فأقول إنَّ أحلامَنا (ليس كلُّ حلمٍ طبعاً)، بلْ الأحلامُ التي لها معنى وتستدعي تفسيراً، أسبابُها روحيَّةٌ، ودوافعُها روحيّة.
مثلُ ذلك حلمُ فرعون مصر الذي حلمَ أنَّه يرى سبعَ بقراتٍ مكتنزاتٍ باللحم، ثمَّ عادَ فرأى سبع بقراتٍ عِجافٍ قِباحٍ أكلتْ البقراتُ الحسان السِّمان.
وقد عجِزَ العرَّافون عن تأويلِ هذا الحلُمِ لفرعون، فالتجأ الملكُ، أخيراً، إلى يوسف الذي فسَّره له قائلاً إنّ البقراتِ المكتنزاتِ باللحمِ تعني سبعَ سنواتٍ رخاءٍ، والبقراتُ العِجافُ السبعُ التالية تعني أنّ الخيرَ سيتبعهُ قحطٌ عظيمٌ في الأراضي المصريَّة وجوعٌ مخيفٌ يضربُ البلاد.
فأمرَ فرعون، إذْ ذاك، أنْ تُملأَ الأهراء بالحبوب تحسّباً لأيّام القحطِ والمجاعة. وهذا تمّ بالحرفِ الواحدِ كما ذكرهُ يوسف.
وكذلك الحلمُ الذي حلِمَهُ الملكُ نبوخذ نصَّر، إذْ رأى شجرةً عظيمةً في وسطِ الأرضِ كان يستظلُّهَا الحيوان، وتسكنُ في أغصانِها الطيورُ، ويأكلُ من ثمارِها البشرُ. ثم نزَلَ قدّوسٌ من السماءِ فصرخَ بصوتٍ عظيمٍ قائلاً: اقطعوا الشجرةَ واقضبوا أغصانَها وانثروا أوراقَهَا وابذروا ثَمرَها ليهربَ الحيوانُ من تحتِها والطيورُ من أغصانِهَا، ولكنْ اتركوا ساقَ أصلُهَا في الأرضِ وبقيدٍ من حديدٍ ونحاسٍ في عُشبِ الحقل، وليبتلَّ بندى السماءِ وليكُن نصيبُه مع الحيوانِ في عُشبِ الحقل، ليتغيّرَ قلبُه عن الإنسانيَّةِ وليُعطَ قلبَ حيوانٍ ولتمضِ عليه سبعةُ أزمنة. وقدْ فسَّرَهُ له النبي دانيال بعدَ أنْ عجِزَ عن تعبيرهِ جميعُ المجوسِ والعرّافين والمنجّمين، وتحقّقَ تفسيرُه بحذافيرِه. منْ هُنَا يرى القارئ أنَّ الأحلامَ سببُها روحيٌّ، إذ عندما يعجزُ جميعُ المدّعين بعلمِ الغيبِ والمتشدّقين بعلمِ النفسِ ومَنْ ضربَ بمعاولهِم عن الإتيانِ بتفسيرٍ صحيحٍٍ لها، يبقى النبيُّ وحدَهُ قادراً على تفسيرِ الحُلمِ وتفصيلِ وقائعه، لأنّه يملِكُ الناحيةَ الروحية، أي أنَّهُ موهوبٌ من السماءِ قوةٌ روحيّةٌ يستطيعُ بواسطتِها فضَّ مغاليقَ عالمِ المجهول. وما خلاَ هذا فكلُّه سفسفطةٌ وأضاليل.
برجُ كيوتو
ارتدينَا ثيابنَا أنا والدكتور خبصا، وذهبْنَا إلى برجِ كيوتو وهو يبعدُ عنْ فُندِقنَا مسافةَََ عشرِ دقائقَ بالترامِ الذي استقلّيناه فأوصلناهُ إليه.
إنَّ هذا البرجَ يقعُ ضِمنَ بناءِ من خمسة طوابقَ فسيحةٍ مترامية الأطراف، وفي كلِّ طابقٍ من المعروضات الثمينة ما يبهرُ الأبصارَ، بحيثُ إنَّ كلَّ ما يطلبُه المرءُ يجدُه.
وقد مكثْنَا في هذا المكانِ منذُ التاسعةِ حتَّى الواحدةِ بعدَ الظهر، ولمْ نستطعْ مشاهدةَ كلِّ شيء لسعةِ المكانِ ووفرةِ المعروضات.
والطابقُ الخامسُ منهُ خُصِّصَ لعرضِ الحيوانات والطيور. فما تكادُ تبلغُه حتَّى ترى جميعَ أنواعِ الأفاعي السامّةِ وغيرِ السامّة، من أصغرِ أنواعِها حتى أعظمِها ضخامة: البُوَا. كما أنكَ ترى مختلفَ أنواعِ السعادين، من أصغرِها حجماً، كقبضةِ الكفّ، لأضخمِهَا جسماً. أمّا أنواعُ الطيورِ فحدِّثْ عنها ولا حرَجْ. وقد لفتَ نظري عصفورٌ بحجمِ الحسّونِ في بلادِنا وقد زوّدَه الله بألوانٍ عجيبةٍ تأخذُ بمجامعَ القلوبِ، وخصوصاً عندمَا تقعُ الشمسُ عليهِ فيبرزُ بأجملِ حُلّةٍ وأروعِ مشهد. وفوقَ الطابقِ الخامس يقعُ البرجُ، وهو مستديرُ الشكل، يستوعبُ لا أقلَّ من 600 شخص، وارتفاعهُ 141متراً . وقد رُكِّزَت فيه عشراتُ المناظير، يضعُ الراغبُ في ثقبِ أيٍّ منها عشرين ينّاً، فتفتحُ عدستُه، ويستطيعُ، إذ ذاكَ، مشاهدةَ كيوتو بأكملها.
وقد شاهدتُها بالمنظار، فإذا هي مستديرةُ تتوسّطُ جبالاً تحيطُ بها من جميعِ جهاتِهَا. وجبال اليابان، كما سبقَ وقلتُ، ليستْ مرتفعةً كجبالنا.
وفي هذا الطابقِ من البرجِ مطعمٌ يحوي جميعَ أصنافِ الأطعمةِ تُقدِّم للزبائنَ كلٌّ حسبَ رغبتِه.
كما أنَّ فيهِ جميعَ أنواعِ المثلّجات. وقدْ رُصِفَتْ الموائدُ بدائرتِه العُظمى، وانتشرَ الناسُ عليهَا، فمِنْهُم مَنْ يأكلُ، ومِنْهُم من يبترد. وقد جلستُ أنا والدكتور خبصا على مائدةٍ حصلنَا عليهَا بشقِّ النفسِ، وبعدَ انتظارٍ طويل.
وهرعَ الموظَّفُ، وسألنَا عن رغبتِنَا فيمَا نتناولُه، فأجبناه: آيْس كريم. فطلبَ أنْ ننقدَهُ الثمنَ سلفاً، مثلمَا يفعلُ مع الجميع 650 ينّاً أي 650 قرشاً لبنانيّاً- فالينُّ يساوي قرشاً لبنانيّاً واحداً.
وانتظرنَا أكثرَ من نصفِ ساعة إحضارَ طلبِنَا، ولكنْ عبثاً كانَ انتظارُنا. فراجعنَا عدّةَ موظّفين، وكلٌّ مِنْهُم كانَ يقولُ نعم ويذهبُ، ولكنْ دونما عودة. وهذا أثارَ حفيظتَنَا، فهرولنَا إلى المسؤولِ، وطالبناهُ بإعادةِ نقودِنا، وأفهمناهُ السبب، وأنَّهُ لا وقتَ لدينَا للمكوث. فأعادَ المبلغَ فوراً مع الإعتذار. وبسببِ هذا الحادث، نسيتُ على الطاولةِ التي كنّا نجلسُ عليهَا دفتراً فيهِ عشرةُ رسومٍ ملوّنةٍ كبيرةِ الحجمِ تمثِّلُ كيوتو وبرجَها ومعابدَها الشهيرةَ كنتُ قد ابتعتُه من البرجِ نفسِه، ولم أتذكّرهُ إلاَّ بعدَ خروجِنَا من البرجِ وابتعادِنا عنْه مسافةً كُبرى.
مَعْبَدُ الألْفِ تمثَال
في الساعةِ الثانيةِ إلاَّ رُبعاً، استقلّينا أوتوبيساً ضمَّ سوانا، أيضاً، من السُيّاحِ الراغبين بمشاهدةِ معابدَ كيوتو وحدائقِها الغنّاء. وقد تقاضتْ إدارةُ الفندقِ ثلاثةَ آلافِ ينٍّ عن كلِّ شخصٍ- أي ثلاثينَ ليرةٍ لبنانيّةٍ.
سارتْ بِنَا السيّارةُ إلى معبدِ صنجو صندو SANJUSANDO ، فبلغناه بعدَ ثلثِ ساعةٍ. وهذا المعبدُ باحتُه طولُها أكثرَ من 120 متراً، في منتصفِها وُضِعَ تمثالُ لبوذا ضخمُ الحجم، وصُفَّتْ عن يمين بوذا، على طولِ ستين متراً، خمسمائة تمثال لبوذا بالحجمِ الطبيعي للإنسان. وصُفَّ على يسارِه، أيضاً، خمسمائةِ تمثالٍ مِنَ الحجمِ نفسِهِ. وقد صُنعَتْ هذه التماثيلُ من خشبِ أرزِ اليابان ومُوِّهتْ بالذهبِ.
وقبلَ دخولِنَا إلى هذا المعبدِ, طُلبَ منَّا أن نخلعَ أحذيتَنَا، ففعلنَا، ودخَلنَا المعبدَ حُفاةً. وقد أُخذنَا بمشهدِ الألفِ تمثالٍ المنسّقةِ بشكلٍ مُذهل. ومكثْنَا سائرين من أوّلِ الباحةِ حيثُ صُفَّتْ التماثيلُ، حتَّى بلغنَا نِهايتَها، فاستدرنَا، إذ ذاك، لجهتِهَا الخلفيّة.
وكانتْ هناكَ تماثيلٌ لآلهةٍ مُرعبةٍ وتهاويلٌ عجيبة، كلُّهَا بالحجمِ الطبيعي للإنسان:
فأنت ترى إلهاً ناريَّ النظراتِ وقد امتشقَ حُساماً يُومضُ الموتُ من حدِّهِ المسنون.
كما أنَّك ترى إلها آخرَ وقد سدَّدَ نظراتِه المخيفة، وفتَحَ فاهُ كأنّه يصيحُ بقوَّة، وقدْ التفّتْ أفعى السمِّ بلعابِها المميت.
وثمّةَُ إلهٍ آخرٍ وقد انحى على آلتهِ الموسيقيّة يُريدُ أن يُسمعَ أبناءَ الأرضِ أنغامَ السماواتِ وما فيهَا من بهجاتٍ الخ الخ…
وفي النهايةِ، بلغنَا المكانَ الذي دخَلنَا منهُ إلى المَعبَد، فاحتدينَا أحذيتنا، واستقلّينَا السيّارةَ، فسارتْ بِنَا وكلٌّ من السيّاحِ يذكرُ تأثيرَ ما شاهدهُ بهذا المعبدِ في نفسِهِ.
ذهابُنا إلى معبدِ كونيزو KONUZU TEMPLE
وصَلنَا إلى معبَدِ كونيزو KONUZU TEMPLE الذي بُني عامَ 784م. وقدْ التهَمَتْهُ النيرانُ مراراً عديدة.
أما المعبدُ الحالي فقد بَنَاه، في عامِ 1633 الشوغون توهوجاوا لياسو،SHOGUN TOHUGAWA LEYASU وهو مشهورٌ بمركزِهِ الواقع ضمنَ غاباتٍ كثيفةٍ تكتنفُهُ من كافَّةِ جهاتِه، ويقومُ على رابيةٍ تشرفُ على مدينةِ كيوتو.
وقبلَ أن تصلَ إليه، يجبُ أن تمرَّ بشارعٍ تقومُ على جانبيهِ متاجرُ ممتلئةٌ بالتحفِ من جميعِ الأنواع، يُقبِلُ السُيَّاحُ على شرائِها كتذكارٍ لزيارتِهِم المعبد، وتستطيعُ أنْ ترى في هذهِ المتاجرِ الفخّارَ المصنوعَ بكيوتو بأنواعِه وأصنافِهِ كافَّة.
مَعبَدُ بوذا الضَّخْم الفَخْم
ثمَّ ذهَبْنَا إلى مَعبَدٍ آخر، أوَّلُ ما يستلفتُ نظرُكَ فيه تمثالٌ ضخمٌ جداً لبوذا نُصِبَ في الباحةِ الخارجيَّة، وهو يُرى من بُعدٍ كبيرٍ نظراً لضخامتِه الكبرى. وقد صوَّرتُ هذا التمثال، كما صوَّرتُ المعابدَ التي زُرتُها. ويرى القارئُ صورةَ بوذا كمَا سجّلتَها العدسة.
مَعْبَدُ هيان HEIAN SHRINO
وذَهَبْنَا إلى معبدِ هيان HEIAN SHRINO، ومؤسِّسهُ هو الأمبراطورُ كوامو KWAMMU الذي أسَّسَ مدينة كيوتو أيضاً.
أمَّا المعبدُ فهو نسخةٌ طِبقَ الأصلِ عن القصرِ الأمبراطوري الذي بُنيَ عامَ 794. وهذا المعبدُ محاطٌ بحدائقَ غنّاءَ لا مثيلَ لها، تجدُ فيها البحيراتِ المذهلةِ للألبابِ وقد انتشرتْ فيها أزهارُ اللوتس المقدَّس بألوانهِ المحيِّرَة.
وقد نُسِّقَتْ هذه الحدائقُ تنسيقاً بديعاً بحيث يستولي جمالُها على مُشاهديها. وقدْ خلتُني في جنَّةِ الخُلدِ عندما تخلَّلتُ هذه الحدائقَ القائمةَ في قلبِ الغاباتِ البكر، بينَما البحيراتُ الرائعةُ تنعكسُ عليها ظِلالُ الأشجارِ فتُحيلها إلى عالمٍ خياليّ لا مثيلَ له. وكانتْ الأسماكُ الحمراءُ والزرقاءُ والمرقّطةُ تسبحُ في هذه البحيرات، وكأنَّها نشوى من جمالِ الطبيعةِ في هذه البقعةِ من الأرضِ السحريَّة!
تالله! لقد فعَلَ بي جمالُ الطبيعةِ في هذه الغاباتِ العذراءِ فِعلَ السحرِ، فانتشيتُ، وأيمُ الحقِّ، وأيّ انتشاء!
تُرى، هل سيُتاحُ لي أن أُشاهدَ، في رحلتي هذه حولَ العالم، مكاناً خلاَّباً فيه هذا السحرُ وهذه الفتنةُ كهذا المكان!؟ أنا لا أظنُّ هذا، والغدُ كشّاف.
مُقارنَةٌ بينَ المَسيحِ وبُوذا
في هذهِ البلادِ- بلادُ اليابان- وبانكوك، وآنكور، وبنوم ين، والهند- لا يعرفونَ عن السيّدِ المسيحِ إلاَّ القليلَ. فنبيُّهُم وإلهُهم هو بوذا. فالمعابدُ قامتْ لأجلِهِ، وعشراتُ الآلافِ من التماثيل نُحِتَتْ لأجلِه، والتسابيحُ التي تُقامُ في آلاف المعابد هي لأجلِهِ، وفروضُ العبادةِ ما كانتْ لولاه.
فالطفلُ منذُ ولادتِهِ إلى يومِ وفاتِهِ لا يعرفُ له نبيّاً وإلهاً إلاَّ بوذا. أمّا المسيحُ فإنَّه لا يُعرفُ عنه شيئاً إلاّ القليل. فبوذا هو معبودُهُ، ومعشوقُه، وأملُه في العالمين. وبوذا هو فوقَ الأنبياء، وفوقَ الآلهة، فمنْ بوذا انبثقتْ البدايةُ والنهاية.
هذا ما تدلُّ عليهِ الآثارُ والمعابدُ العظيمةُ التي تركَها السَّلفُ للخَلفِ لتحدِّثَه عن بوذا، وعظمةُ بوذا، وألوهيّة بوذا.
وما قلتُهُ عن بوذا في تلكَ البلادِ أقولهُ عن المسيحِ في بلادِنا وفي الغرب. فمنذُ نفتحُ أعيُننَا وندرِكُ لا نسمعُ إلاَّ عن المسيح، وعجائبَ المسيح، وألوهيةِ المسيح. والسوادُ الأعظمُ من الشعبِ إذا سألتَهُم عن بوذا لأجابوكَ باستغرابٍ: من هو بوذا؟! فإنَّهُم لا يعرفونَ عنه شيئاً. وإذا قلتَ لهم إنَّ بوذا أعظمُ من المسيح، فإنّهم يمزِّقونكَ لا محالةَ إذا استطاعوا ذلك.
والأمرُ نفسُهُ سيحدثُ لكَ إذا قلتَ لبوذيٍّ إنَّ المسيحَ أعظمُ من بوذا، فإنّه بلا ريبٍ سيلطمُكَ على أنفكَ ويُحطِّمْهُ لك.
إنَّ آلافَ الكنائسَ لولا المسيحُ لم تُبْنَ، وآلافَ المعابدَ وأماكنَ العبادةِ لولا بوذا لما وُجِدَ لها أيُّ أثر. تُرى مَنْ مِنَ الشعبين مُصيبٌ بصحَّةِ اعتقادِه؟
أهم البوذيّون أم المسيحيّون؟!
أنا أختصرُ هذا البحث، وأقفُ عندَ هذا الحدِّ لإعتباراتٍ كثيرةٍ لا تَخفَى على القارئ اللبيب.
98 مليون ياباني برقعةٍ صغيرة!
يقطنُ في مدينةِ كيوتو مليونٌ ونصفُ مليونِ شخص، فهي غاصَّةٌ بالسكَّانِ بشكلٍ ملحوظٍ، إذ خرجتُ هذا اليوم، ليلاً، إلى الأسواقِ، فإذا الناسُ يملأون الشوارعَ بصورةٍ تُلفِتُ النظر، وقد شبّهتُهم بأمواجِ البحرِ المتلاطم، موجةٌ تصدمُ موجةً أُخرى فأخرى، وهكذا دواليك. كنتُ أشقُّ لنفسي الطريقَ بشقِّ النفس.
كانتْ الساعةُ، إذْ ذاك، الثامنةَ والنصفِ ليلاً. وقد حاولنَا ركوبَ الترام ولكن عبثاً، فإنَّ آلافَ الناسِ كانتْ تملأُ عرباتِ الترام والأوتوبيسات. والمنتظرون في المحطّاتِ يُعدَّون بمئاتِ المئات. حقّاً إنَّ هذا المشهدَ لمِنَ المشاهِدِ المذهلة. إنَّ عددَ الشعبِ اليابانيّ 98 مليون نسمة، وهم يقطنونَ في رقعةٍ من الأرضِ أصغرَ من ولايةِ كاليفورنيا بأمريكا، وأكبرَ من النروج قليلاً.و90 بالمئةِ من أراضي اليابان جبال، وكثيرٌ من جبالِهَا بركانيٌّ.
إستِحمَامٌ فََنَومٌ
عُدنَا إلى الفندقِ في ساعةٍ متأخّرةٍ من الليلِ بعدمَا جوّلنا في شوارعَ هذه المدينةِ، وشاهدنَا متاجرهَا الليليّةَ المكتظّةَ بشتّى أنواعِ البضائع، وقد دخلنَا أكثرَها. وعندَ وصولِنَا إلى الفندقِ، كانتْ أجسامُنا تنضحُ عرقاً لشدَّةِ الحرارةِ المرتفعة، فقد سجّلَ الميزانُ 33 درجةٍ مئوية، مع أنَّ الوقتَ كان ليلاً. حقاً إنّ اليابان هي بلادُ الشمس المشرقة، وصَدَقَ من أطلقَ عليها هذا الإسم.
وما دخلتُ الغرفةَ حتَّى استحممتُ فوراً، ثمَّ رقدتُ وأنا منهوكُ القوى.
في 17 آب 1969
إلى مَدينَةِ نارَا
رَكِبْنَا الأوتوبيس من أمامِ الفندقِ، في التاسعةِ والنصفِ صباحاً. وكانتْ مقاعِدُهُ مملوءةً بالرُكّابِ من السيّاح، وقصدنَا مدينةَ نارا لنشاهدَ معابِدَها. ونارا على مسافةِ 45 كيلومتراً من كيوتو.
وقد أُسِّسَتْ كيوتو في عامِ 710 مسيحيّة. ومكثتُ نارا العاصمةََ الثانية لليابان، بعدَ كيوتو، حتَّى سنة 1868م، حينَ أصبحتْ طوكيو عاصمةُ البلادِ اليابانيَّة قاطبة. ونارا تبعدُ عن كيوتو 45 كيلومتراً. وقد وصلنا إليها في ساعةٍ، والحرُّ بالغُ الشدَّةِ، وحالَ وصولِنا كانتْ الساعةُ العاشرةَ والنصف صباحاً.
وقد زُرْنَا معبدَ بوذا الكبير- نارا دايبتسو-NARA DAIBUTSU، فإذا هو فخمٌ للغاية، ويبلغُ ارتفاعُ سقفِه عن الأرض 25 متراً. وقد وُضِعَ تمثالُ بوذا الضخمِ في وسطِ باحةِ المعبدِ بحيث يصطدمُ به بَصرُ الداخل.
إنَّ المعبَدَ الذي نُصِبَ فيهِ تِمثالُ بوذا الكبير قد بُني عام 752م. وهو المركزُ الرئيسيّ لشعبةِ البوذيّين الملقّبين باسم KEGON. وبوذا الكبيرُ يمثِّلُ فاير وشانا بوذا VAIROCHANA مؤسِّس شعبةِ الكيغون.
وفي عامِ 1200، أرادَ الأمبراطور شومو SHOMU أن يخلُقَ الجنَّةَ على الأرض! فزادَ على هذا المعبدِ أبنيةً عديدةً للصلاةِ والتأمِّلِ بهندسةِ فنيَّةٍ بديعة، ولكنْ، لسوءِ الحظِّ، التهمتْ النارُ المعبدَ مرَّتين. والمعبدُ الحالي هو 40 بالمئة أصغرَ من المعبدِ الأصليّ القديم.
وتمثالُ بوذا الكبيرُ المصنوعُ من البرونز هو مِنْ أكبرِ التماثيلَ التي نُصِبَتْ لبوذا في جميعِ أرجاءِ العالم. وهو يُعدُّ أُعجوبةً من أعاجيبِ الفنِّ اليابانيّ العظيم، ويدلُّ دلالةًً واضحةً على أنَّ الشعبَ اليابانيّ عريقٌ في حضارتِه، وذو مقدرةٍ لا تُجارى في الفنونِ الجميلة. وحسبُهُ هذا التمثال البالغُ من الفنِّ ذروتَه الذي لا يسعُ أيَّ مكابرٍ، أمامَه، إلاَّ أنْ يصمتَ صمتاً أبديّاً.
تملَّيتُ هذه التحفةََ الفريدةَ، وأنا لا أُصدِّقُ عظمةََ ما أراه، ثمَّ ابتعدتُ قليلاً عن تمثالِ بوذا، إلى اليسار، فإذا بجوارِهِ تمثالٌ جبَّارٌ يمثِّلُ آلهةً وقد مُوِّهَتْ بالذهب. كان هذا التمثالُ رائعاً، أيضاً، بفنِّهِ العظيم، فخشعتُ أمامَ هذه الموهبةِ التي لا يُمكنُ أنْ يِنكرَهَا أيُّ مخلوقٍ على هذا الشعبِ العريقِ بحضارتهِ وفنونِهِ.
وهذا المعبدُ مشهورٌ بثلاثةِ آلاف حجَرٍ نُحِتَتْ بهيئةِ فوانيس (لانترن) تتوسّطُها طريقٌ طولُها ثلاثةُ أرباعِ الكيلومتر، يقطعُها السائرُ صُعُداً قبل أنْ يبلغَ المعبدَ. وبعضُ هذه الفوانيس لا يقلُّ عمرُه عن 800 عام. وهي تُنَوَّرُ مرَّتين في السنة، بمناسباتٍ دينيَّة.
البَاجُودا العَجيبةُ
غادرنا المعبدَ، وقصَدْنَا مكاناً رحباً بُنيَتْ فيه باجودا، وهي بناءٌ منَ الخَشَبِ ذو خمسةِ سقوفٍ كلُّها من الخشبِ الذي لم يدْخُلْهُ أيُّ مسمارٍ أو أيَّةُ مادَّةٍ حديديَّة، إذْ شُبِكَ بَعضُهُ ببعضٍ بفنٍّ عجيبٍ بحيث أصبحَ المبنى كلُّهُ قطعةً واحدةً تترجَّحُ كرقّاص الساعة، ذهاباً وإياباً، عندما تحرّكُها الرياح!
وهذه الباجودا اسمُها مومو ياما غوريو مايMOMO YAMA GORYOMAE ويزورُها الآلافُ من السُيّاحِ، حتَّى منَ اليابانيّين أنفسِهِم. وقدْ دُهِشْنَا مِنْ فَخَامةِ بنائِها ودقَّتِهِ وحُسنِ منظرِها الجاذب للأنظار.
إلى فُنْدُق نَارَا
كان التعبُ قد أخذَ من الجميعِ مأخذاً، فذهبوا بنَا إلى فندقِ (نارا أوتل) وهو فندقٌ رحبُ القاعات، جميلُ الغُرَفِ، تُحيطُهُ حديقةٌ غنّاء تشدو الأطيارُ على أفنانِها.
وبعدَ أنْ تناولنَا الطعامَ، وأخذنَا قسطنَا من الراحة، وشاهدنَا السِّلَعَ الممتلئةََ بها الواجهاتُ الزجاجيَّةُ وهي معروضةٌ لكلِّ راغبٍ في الشراء، ركبنَا الأوتوبيس، وذهبوا بِنَا إلى قلعةِ فوشيمي. FUSHIMI MOMO YAMA CASTLE . تقعُ قلعةُ فوشيمي بالقربِ من كيوتو، فهي أقربُ إلى كيوتو منها إلى نارا. بناها أمير الحربِ هيديوشي HIDEYOSHI عام 1549، وقد هُدِمَتْ بمعركةٍ حربيَّةٍ، عام 1600، ثمَّ أعادَ المنتصرُ بناءَها، واستعملَها كمركز رئيسيٍّ لأعمالِهِ الحربيَّة.
وفي سنةِ 1623 أبطلوا استخدامَ هذه القلعة لأغراضِهم الحربيَّة، فقوَّضوا بعضَها، واستعملوا حجارتَها الضخمة لبناءِ الهياكل.
والقلعةُ بحالتِها الحاضرة جُدِّدَتْ عام 1964 تجديداً في غايةِ الجودةِ. وعلوُّ هذه القلعة 48 متراً، ومساحتُها مع ضواحيها مئةُ ألفِ مترٍ مربَّع.
وعندَ دخولِنَا إلى باحتِها، شاهدنَا نافورةَ مياهٍ رحبةِ المساحة، والمياهُ تعلو في الفضاءِ من أنابيبِها العديدة، فترطِّبَ الجوَّ البالغَ الحرارة.
وكانت الطواويسُ تتبعُ الناسَ فيطعمونَها. فهذه القلعةُ مشهورةٌ بطواويسِها الأليفةِ المتبخترة في حدائقِها الغنّاء وكذلك العزلانُ وطيورُ الحبارى.
ومضينَا إلى داخلِهَا، فإذا كلُّ ناحيةٍ فيها تُمثِّلُ ناحيةً من العصرِ البائد. فوراءَ حائطٍ من الزجاج، شاهدنَا رجلين (تمثالين) وهما يَجرّان عربةً وجنديٌّ يسوطُهما ليحثَّهُما على الإسراع.
ووراءَ حائطٍ زجاجيٍّ آخرٍ جلسَ الإمبراطورُ بحُلّتِهِ الملكيَّةِ تجالسُه الإمبراطورةُ بأزهى الأثواب وأفخمِها.
ثمَّ شاهدنَا محفَّةً ذهبيّةً رائعةَ النقوش، وكأنَّ صانِعَها قد انتهى من صُنْعِهَا فوراً. بعدَ ذلك، صعدنَا إلى القِمَّةِ، فشاهدنَا المدينةََ بأكملِهَا من هذا العلوِّ الشاهق. وعندَ نزولِنَا عددتُ درجاتِها، فإذا هي 183 درجة.
عودتُنا إلى كيوتو
واستقلَّينَا السيارةَ، وعُدنَا إلى كيوتو، فبلغناهَا في الساعةِ الخامسةِ مساءً. وقدْ صعَدْنَا إلى الغرفةِ، والتعبُ آخذٌ منَّا كلَّ مأخذٍ، فاغتسلتُ وطلبتُ الراحةََ ساعةً كاملةً.
ثمّ نزلتُ مع الدكتور خبصا بجولةٍ في أرجاءِ المدينة، وعُدنَا إلى الفندقِ. وبعدَ أنْ تناوَلْنَا طعامَنَا، استسلمْنَا للنومِ العميق.
في 18آب 1969
في مَعْبَدِ هيغاشي هنغانجي
في الساعةِ التاسعةِ والثلثِ صباحاً، استقلَّينا الأوتوبيس لزيارةِ القصورِ والحدائقِ الملكيَّة، وقد كانَ برفقتِنا عشرُ سيّاراتٍ يقلُّ كلٌّ منها أربعين سائحاً، فيكون مجموعُ السُيّاحِ بهذهِ السيّاراتِ 400 سائح.
وقد زُرْنَا، أوَّلاً، معبدَ هيغاشي هنغانجي HIGASHI HONGANJI TEMPLE وهو من أشهرِ معابد البوذيّة في اليابان، ويُعَدُّ كمكَّة إذ يحجُّ اليابانيّون قاطبة إليه. وهذا المعبدُ قد التهمتُه النيرانُ مراراً عديدةً، وأُعيدَ بنيانُه بشكلِهِ الحالي عام 1895. وهو مشهورٌ بهندستِهِ اليابانيَّة البوذيَّة الخاصَّة، ويُعتَبرُ أحدَ أكبرِ المعابدِ المبنيَّة من خشبِ الأرزِ اليابانيّ.
وقد فُرشَ بألفِ حصيرةٍ جميلةِ التقطيع والتفصيل، كلُّ قطعةٍ منها بحجمِ شقيقتِها تماماً. وقد قستُ إحداها بالمترِ الذي أحملُهُ معي، فكانَ طولُها 190 سم، وعرضُها 90سم. وكلُّ تقطيعةٍ مثلها في القياس.
وهذا المعبدُ يُعدُّ الثاني في هندستِهِ الخشبيَّة الأرزيَّة بعدَ معبدِ بوذا الكبير في نارا. ويوجدُ فيه حبلٌ ضخمٌ للغاية حيكَ وجُدِلَ من شعرِ نساءِ هذهِ الشيعةِ الدينيَّة. وقدْ شاهدتُه بأمِّ عيني، وهو موضوعٌ ضمنَ بناءٍ زجاجيٍّ طولهُ حوالي المتر و60 سم، بعرضِ متر واحد.
وقد استُعملَ هذا الحبلُ في إنشاءِ هذا المعبد، ووُضِعَ في باحتِه، وراءَ زجاج، لتُتاحَ رؤيتُه لكلِّ من يرغبُ بمشاهدتِهِ.
في القصورِ والحدائقِ الملَكيَّةِ القديمة
وانتقلنا من هذا المعبدِ برتْلِ السيَّارات العشر إلى القصر الملكيّ القديم الذي تُحيطُ به حدائقُ غنّاءُ فيحاء. وتاريخُ هذا القصرِ هو تاريخُ كيوتو نفسِها. وهو في الواقع، مجموعةٌ من القصورِ، وقد بُنيَ القصرُ الملكي الأساسي في عهدِ هيان HEIAN الذي يمتدُّ من عام 794م حتى 1192م. أمّا سائرُ القصور فقد بُنيتْ في عهدِ كاماكوبا KAMAKUBA الذي ابتدأ عامَ 1192م وانتهى عام 1333م.
والقصرُ الأساسيّ يُستعملُ حتى يومِنا هذا لتتويجِ الإمبراطور.
مَعْبَدُ كنكاكوجي
KINKAKUJI TEMPLE أو GOLD PAVILION
ثم ذَهَبْنَا إلى مَعبَدِ كنكاكوجي، وقد بُنيَ ضِمنَ غابةٍ تحيطُها بحيراتٌ ذاتُ مياهٍ فتّانةٍ وأشجارٍ سحريَّة. وصارَ تشييدُهُ في عهدِ موبوماشي MUBOMACHI الذي يمتدُّ من عام 1336 حتَّى عام 1573. وبالأصلِ كانَ بلاطاً فخماً لأحدِ الأشراف. وأوَّلُ ما أُقيمَ في عام 1394.
وقد حسّنَه الشوغون الثالث يوشيمتسو- من أُسرة أشيكاغا- الذي عاشَ بقيَّةَ حياتِهِ في هذا القصرِ المنيفِ وذلك بينَ عام 1358 و 1408.
وفي سنةِ 1950، التمَّتْ النيرانُ هذا القصر الفخم من جرّاءِ خطأ ارتكَبَهُ أحدُ كهَنةِ المعبد.
أمّا المعبدُ الحالي فقدْ أُعيدَ ترميمُه في عام 1955 بالهندسةِ نفسِها التي كانَ عليهَا سابقاً، وفي المكانِ عينِه أيضاً.
قصرُ نيجو
NIJO CASTLE
هذا البناء أحسنُ مَثَلٍ يُعطى لعظمةِ عهدِ الموموياما MOMO YAMA.
أمّا تشييدُهُ فقد تمَّ عام 1603 ليكونَ مسكناً للشوغون(1) توكوغاوا TOKOGAWA.
ويصيرُ الدخولُ إلى القصرِ من البوّابةِ الشرقيَّةِ في مبنَى يضمُّ أربعةََ أبنيةٍ سواه، فيكونُ مجموعُها خمسةَ مبانٍ. وقد شُيِّدَ القصرُ بخشبِ الأرز.
وغرفُه تزيِّنُها الرسومُ الزيتيَّةُ من عهدِ مدرسة كانو- أي عائلة الفنّانين المشهورين منذُ القرنِ الثالث عشر في اليابان.
خلعْنَا أحذيتنَا، ثمَّ ولجنَا هذه المباني الخمسة. فإذا هي ذاتُ ممرّاتٍ طويلةٍ تُشرفُ عليها غُرفٌ فسيحةٌ زُيّنَتْ كلٌّ مِنْهَا برسومِ حيواناتٍ مفترسةٍ كالنمورةِ والسباعِ وهي في اقتتالِها، والنسورُ الجاثمةُ على فروعِ الدوح، والطواويس المختالة بريشِها الزاهي، وهي جاثمةٌ على أغصانِ الأشجار، بينمَا أذيالُها الملوَّنةُ مدلاّةٌ في الفضاء. وثمّة تنِّين يمثِّلُ سلطةَ الشوغون على الأمراء التابعين له. والمبنى الأول من القصرِ يشتملُ على عدَّةِ غرفٍ مزخرفةٍ بجمالٍ وبهاءٍ فائقين. وتزينّها لوحاتٌ فنَّيةٍ خشبيَّةٍ للفنّانِ الياباني كانو تانيو KANO TANYU الذي وُلدَ عام 1602 وتوفي عام 1674. كما في هذا المبنى أيضاً لوحاتٌ من صُنعِ تلاميذِ مدرستِه.
وعندما تسيرُ في الفناء تسمعُ صوتاً خافتاً مصدرُهُ تصميمُ أُجري بهندسةٍ وفنٍّ بارعين لينبّهَ حرس القصر إلى أنّ دخلاء استطاعوا، بطريقة ما، ولوجَ القصر لاغتيالِ الشوغون.
أمّا المبنى الثاني فيتألّفُ من ثلاثِ غُرفٍ تزيّنُها لوحاتٌ جميلة، أروعُها رسمُ الأسدِ في الغرفةِ الثالثة. كذلك فيها لوحاتُ أشجارِ كرزٍ مُزهرةٌ تحطُّ عليها عصافير.
والمبنى الثالث فيه الدارُ الكبيرة. والمبنى الرابعُ صغيرٌ، لكنَّهُ جميلٌ، وفيه لوحةٌ تمثِّلُ طائرَ الحزين واقفاً على زورق صغير.
أما المبنى الخامسُ فقدْ خُصِّصَ لسكنِ حريمِ الشوغون.
ومرَرْنَا بغرفةٍ فسيحةٍ فيها ثلاثةَ عشر شخصاً جالسين، وتجاهَهُم، على بعدِ بضعةِ أمتارٍ, جلسَ الشوغون وبجانبِهِ جنديٌّ يَمتشقُ الحُسام.
وللوهلةِ الأولى، ظننتُهم أشخاصاً حقيقيين، لعظيمِ إتقانهم، وهم يلبسون بذلاتِهم اليابانيّة الوطنيّة.
والشوغون كانَ ذا سلطةٍ مطلقةٍ. وكانتْ اليابان، عهدئذٍ، تحكمُها العائلاتُ العريقةُ في حسبِها ونسبِها وغِناها الطائل.
وفي عامِ 1868 أصدرَ الإمبراطورُ مرسوماً نزعَ بموجبِهِ هذا الحقَّ من الأُسرِ الحاكمةِ، وجعلَ السلطةَ الوحيدةَ، في طولِ البلادِ وعرضِها بيدِه.
وقد سلَّمَ الشوغون سلطاتِه متنازلاً عنها للإمبراطور في هذهِ الغرفةِ نفسِها التي تضمُّ الثلاثة عشرَ شخصاً، والشوغون، والجنديُّ الشاهرُ حسامه. وأتاحتْ السلطاتُ للشعبِ زيارةَ هذه الغرفة ليتعرّفَ حقبةًً مِنْ تاريخِ بلادهِ العريقة، ووضعتْ فيهَا التماثيلَ المذكورة لتوضِّح له كيفيَّةََ حصولِ الحادثِ التاريخي.
خَمْسٌ مِنْ نِسَاءِ الشُّوغون
وسرنَا في رواقٍ ممتدٍّ في البناءِ نفسهِ حتَّى بلغنَا غرفةً رحبةًً جلسَ الشوغونُ وسَطَها على طنفسةٍ نفيسة، مُسْنِداً يدَهُ إلى مُتَّكَإ من خشبِ الأرز. ووقفتْ إحدى زوجاتِه قربَه، وهي مُمسِكةٌ بكلتا يديها كأسَ الماء لتسقي زوجَها، بينمَا جلستْ اثنتان من نسائِهِ على مقْرُبةٍ منه، وشعرُ رأسيهما يكادُ يُلامسُ الأرضَ بطولهِ، وقدْ ارتدينَ جميعاً أبهى حِلَلهنَّ.
كمَا أنَّ اثنتين من نِسائِه أيضاً وقفتا بجوارِهِ من الناحيةِ الأخرى، وقدْ صفَّفتا شعورَهما، وعقصتاها على الطريقةِ اليابانيَّة، وغرستا في شعورِهمَا قطعاً طويلةً من العاجِ المُسَنَّنِ، بقصدِ التجميل، فبرزنَ جميعهنَّ بأجملِ حُلَّةٍ، حتى يُخيَّلُ للرائي أنَّهنَّ نساءٌ حقيقيَّاتٌ ولسنَ بتماثيلَ رائعةِ الصُنعِ، وبالغةِ الفنِّ بدقَّتِها المُذهِلَة.
ذُبَابَةٌ واحِدَةٌ فَقَطْ!
نسيتُ أن أذكرَ أنَّني عندمَا خرجتُ من أبنيةِ الشوغون الخمسة، ووصلتُ إلى الباحةِ الخارجيَّةِ، كانَ هُناكَ وعاءٌ مُعَلَّقٌ توضَعُ فيه نفاياتُ الأطعمة. وقد شاهدتُ ذبابةً تحومُ حولَه!
وهذه هي الذبابةُ الوحيدةُ التي شاهدتُها في اليابان، ولم أرَ سواها قطّ. فاليابان مِنْ هذهِ الناحيةِ عظيمةٌ كلَّ العظمة، إذ لا يستطيعُ المرءُ أن يُشاهدَ في طولِ البلادِ وعرضِها، أيَّةَ ذُبابَةٍ. وذلكَ لشدَّةِ النظافة الضاربةِ أطنابَها في جميعِ البلادِ اليابانيَّة.
إنَّني مولعٌ بالفواكِه، ولا أُعيرُ اهتمامي للُّحُوم. وكنتُ أبتاعُ ما أحتاجُهُ من الموزِ والدرَّاق، والبطيِّخِ الأحمرِ والأصفر، وغيرِهَا من أنواعِ الفواكه، وآتي بهَا إلى الفندق. وكنتُ أتناولُ منها حاجتي، وأترُكُ الباقي على المائدة. وفي اليومِ التالي، لمْ أكنْ أُشاهدُ أيَّةَ ذُبابَةٍ، أو نملةٍ، أو هامَّةٍ، أو أيَّةَ حشرةٍ أخرى، فأُدْهَشُ لهذا الأمرِ العظيم!
حقّاً إنَّ اليابان قد جلّتْ في هذا المضمارِ، وهي تُُشكَرُ عليهِ الشكرَ كلَّه.
في كيوتو 1600 معبد
إنَّ الدليلَ الذي رافقنَا وشرَحَ لنَا عنْ المعابدِ والقصورِ التي زُرنَاهَا ذَكَرَ فيمَا ذَكَرَهُ أنَّ مدينةَ كيوتو يُطلقونَ عَليهَا اسمَ مدينةِ المعابد، إذ تحتوي على 1600 معبد. وطبعاً، أنا أُدَوِّنُ ما سمعتُه منه كيابانيّ لديهِ معلوماتٌ وخبرةٌ، وقد سُمحَ لهُ، بإذنٍ حكوميّ، أنْ يقودَ السُيّاحَ ويكونَ لهُم كترجمانٍ ودليلٍ. ولكنَّنِي سأتحقَّقُ صحَّةَ قولِهِ أو عدمِها من الأشخاصِ الرسميِّين، لكيْ لا أكونَ قدْ نشرتُ شيئاً تاريخيّاً مغلوطاً(2).
تجوالُنا ساعَتين في شوارعَ كيوتو
في الساعةِ الخامسة بعدَ الظُهرِ هبطتُ من الفندقِ مع الدكتور خبصا، وضربنَا في طولِ الشوارعِ وعرضِها، سيراً على الأقدام، ساعتين كاملتين. وبأثناءِ تجوالنا، شاهدتُ لأوَّلِ مرَّةٍ منذُ دخولي الأراضي اليابانيّة، فتاةً تقودُ سيَّارتَها.
وبعدَ قليلٍ، شاهدتُ فتاتين أُخريين تقودان سيَّارتيهما، فقالَ لي خبصا: بعدَ عامٍ أو أقلٍّ، سيكثرُ عددُ السائقات، وستنتشرُ هذه العادةُ هنا مثلمَا انتشرتْ في بلادِنا. وعرّجنَا على حانوتٍ تُباعُ فيه الأثمارُ والفواكهُ، فابتعتُ موزاً. وقد بلغَ طولُ الموزةِ الواحدةِ 28 سنتمتراً، ومُحيطُها 12سم ونصفاً، فدهشتُ لهذا الأمر، وعَبَّرتُ للدكتور خبصا عن دهشتي، فأجابني إنَّ هذا الموزَ تستورِدُهُ اليابانُ من الإكوادور. فأجبتُهُ: سأزورُ الإكوادور يوماً بإذنِ الله تعالى.
عَودتُنا إلى الفُنْدُق
عُدْنَا إلى الفندقِ في السابعة، وكانَ التعبُ آخذاً منَّا كلَّ مأخذ، إذ سِرنا ساعتين كاملتين قطعنَا خِلالَهما حوالي ثمانية كيلومترات. وقدْ تناولنَا طعامَ العشاءِ في غُرفتِنَا، إذ ابتعنَا في أثناءِ تجوالنا، بعضَ أنواعِ الفاكهة والأجبانِ والمُخلَّلات، ثمَّ أوينا إلى سريرينا باكراً.
في 19آب 1969
حُلُمٌ مُزَلْزِلٌ
استيقظتُ صباحاً وأنا أستعيذُ من الرؤيا التي شاهدتُها في خلالِ رقادي. فقدْ شاهدتُ زلزالاً هدَّمَ منزلي، وبعثرَ أشلاءَه، ومزَّقَ بنيانَه، وفكَّكَ أوصالَه، فأصبحَ كالهشيمِ تذروهُ الرياحُ.
ربّاه! أُلطفْ بعبيدِكَ الذين ضلّوا الطريقَ القويم، وأبعدْ عنهُم الرزايا، وأَشِحْ عنهم البلايا، وقوِّهِم، وسَدِّدْ خطواتِهم، وأزِلْ القلقَ عنهم، ودعْ الطمأنينةََ تقطنُ في أعماقِهم، وقُدْ خطواتِهم إلى سواء السبيل، واغفرْ لهُمْ آثامَهُمْ فأنتَ الغفورُ الرحيمُ، وأنتَ إلهُ الكائناتِ بأسرِها المعروفُ منها والمجهولُ، وأنتَ أرحمُ الراحمين.
إلى مَخزَنِ كيوتو هَنْد كرَفْتْ سنْتِرْ
في التاسعةِ والنصفِ من صباحِ اليوم، كنتُ والدكتور خبصا أمامَ مخزنِ كيوتو هند كرفت سنتر. وهذا المخزنُ ذو طابقين فخمين، وهو الذي يوزِّعُ على المخازِنِ الثلاثةِ الكبيرةِ ذاتِ الطبقاتِ الخمس والست في كيوتو سلعَهُ العديدة.
دخلناهُ فدهشنَا من روعةِ التحفِ المعروضةِ فيه، خصوصاً عقودَ اللؤلؤ، والأقراطِ والأساورِ اللؤلئيَّةِ وهي تلمعُ ببريقٍ فتّانٍ تحتَ الأضواءِ الكهربائيَّة المسلَّطة عليها. واليابانُ مشهورةٌ بلؤلئِها الثمين سواءً الأصليُ منه أو الاصطناعيُّ، وأثمانُهُ مرتفعةٌ أيضاً. لقد تهتُ في خضمِّ هذه الكنوز العجيبة! فلو كنتُ أملكُ الملايينَ لابتعتُ بها بعضَ هذه الكنوزِ التي تُحتَقرُ النقودُ أمامَها. وانتقلنَا من قسمِ المجوهراتِ والحلي إلى قسمِ الصيني، فإذا هو بالغٌ من الفنِّ ذروتَه.
فالصحونُ التي تُزخرفُ بها الجدرانُ رُسمتْ عليها شتّى الرسومِ الفاتنةِ بألوانٍ عجيبةٍ. فهذا صحنٌ تبلغُ استدارتُه 40 سنتمتراً، وقد رُسمَتْ عليه شجرةٌ مزهرةٌ وقفَ على غصنِها ذي الأزهارِ الورديَّةِ طاووسٌ تدلّى ذيلُهُ الفاتنُ حتَّى حافةِ الصحن؛ وقد وُشِّيَتْ السماءُ بلونٍ أزرقٍ تتخلَّلَهُ غيومٌ رقيقةٌ بينَها منفرجاتٍ تزيدُها جمالاً على جمال.
استفسرتُ عن ثَمَنِهِ، فإذا هو خمسمائةُ دولار أمريكيّ. وهذه الصحونُ ذاتُ قياساتٍ مختلفةٍ متفاوتةٍ، صعوداً وهبوطاً، بالنسبةِ إلى الفنّانِ الذي رسَمَ عليها. فكلّما اتّسعتْ شهرتُه وبرَعَ فنُّهُ، ارتفعَ ثمنُ الوعاءِ سواءً أكانَ صحناً أم كوباً أم أيّ نوعٍ آخر. ولفَتَ نظري ستّةُ أكوابٍ للشاي مع صحونِها، وقد رُسِمَ عليها أزهارٌ وأطيارٌ، ومُوِّهَتْ بالذَّهَبِ الحقيقيّ، وكان ثمنُها ألفُ دولار أمريكي. وثمَّةُ طَقمٍ كاملٍ للمائدةِ يتألّفُ من 93 قطعة، أمّا ثمنُه فثلاثةُ آلافِ دولار أمريكي. إنَّ صناعةََ البورسلين في اليابان تعلو ولا يُعلى عليهَا. وممَّا شاهدناهُ غرفةً فيها ستّةُ فنّانين أخذنا نتأمَّلُ أشغالَهُم في الحفرِ والنقشِ والتلوينِ على السِّلَعِ الفنيَّةِ ذات الأثمانُ المرتفعة، فعرفنا، إذ ذاك، سبب أسعارها الباهظة.
مكثْنَا نجُولُ في الطابقين ساعتين كاملتين مرّتا وكأنّهُمَا دقيقتان، إذْ تُهنا في بحرٍ من الفنِّ لا نظيرَ لهُ في بلادِنا العربيّة.
إلى مُتْحَفِ كيوتو الزيتيّ
واستقلّينا سيّارةً أوصلتنا إلى مُتحفِ الفنّ، فدخلناه.
وبأسفٍ كلّي، وجدتُ مئاتِ اللوحاتِ الزيتيّةِ تملأُ جدرانَه العظيمةَ الإتِّساعِ، وجميعُها لوحاتٌ عصريّةٌ- سرياليّة- ولم تقعْ عيني على أيَّةِ لوحةٍ واقعيّةٍ.
وهذا يُبرهِنُ، بصورةٍ جليَّةٍ لا تقبلُ الشكَّ، أنّ الحكوماتِ نفسَها لا خبرةَ لديها بهذا الفنِّ، وقد سيطرَ عليها فنّانو السرّيالزم حتّى سمحوا لهم بإدخالِ لوحاتِهم التافهةِ إلى المتحفِ الحكومي؛ إذ ظنّوا أنَّ الفنَّ السرّيالي هو فنٌّ له قيمةٌ جُلّى، مع أنَّ الحقيقةََ لا قيمةََ لهذا الفنِّ التافِه، إذْ بإمكانِ طفلٍ أن يغمسَ الفرشاةَ في الألوان، ويضربُها على القِماشة كيفما شاء، ويخرجُ علينا بلوحةٍ تُعلَّقُ في متحفٍ حكوميّ! واأسفاه! لقد سيطرَ الجهلُ في موضوعِ الفنِّ على جميعِ حكوماتِ كرتِنَا الأرضيّة، إذْ لا تدخلُ متحفاً إلاّ ترى فيه من هذه اللوحاتِ الرخيصةِ بفنِّها الكاذب. فأين أينَ الفنُّ العظيمُ الممثَّلُ بلوحاتِ رامبرانت، وميكال آنج، ورفائيل سانزيو، وبوشه، ورنوار، وبوغورو، وده لاكروا، وغيرِهِم كثيرين مِمَّنْ بلغوا أوجَ الفنّ، وخلّفوا لنَا تراثاً تعتزُّ به أُمَمُ الأرضِ قاطبةً؟!
أينَ هذا الفنّ- فنُّ القدامى العظيم- من (سلَطَة نَوَر) المعاصرين، من فنِّهِم المخنَّث التافِه؟! قاتلَهُ اللهُ وقَتَلَه، وأراحَ البشرَ من عظيمِ ضرَرِه.
في دُكَّانِ الفاكِهَاني
بعدَ ظُهرِ اليوم، دخلتُ إلى دكّانٍ مختصٍّ ببيعِ الخُضارِ والثِمارِ والفواكِه، وسأُعطي القارئَ أمثلةً عن أسعارِها في اليابان ليقارنَ بينَهَا وبينَ أسعارِ بلادِنا العربيَّة:
الدرّاقُ- ثمنُ الواحدةِ منه 120 ين، أي ليرةٌ وعُشرون قرشاً لبنانيّاً، لأنَّ كلَّ ينٍ يساوي قرشاً، ولكنّ درّاقَ بلادِنا أطيبُ مذاقاً، وإنْ يكنْ درّاقُ اليابان أكبرَ حجماً.
البطِّيخ- ثمنُ البطِّيخةِ بنسبةِ حجمِها، يتراوحُ بين 15و 5 ليرات لبنانيّة.
العنبُ الأبيض- ثمن العنقودِ مِنه 12 ليرة لبنانيّة. وينخفضُ السعرُ إذا ما صغرَ العنقود. وعنب بلادِنا ألذُّ مذاقاً منه. أمّا العِنَبُ الأسود فأرخص ثمناً.
البندورة- ثمنُ الواحدة ليرةُ لبنانيّة، وهي متوسّطةُ الحجمِ وجيِّدةُ الطعم.
التين- كبيرُ الحجمِ، يتراوحُ ثمنُ الحبّةِ منه بين 50 قرشاً لبنانيّاً وليرة واحدة. ويُفضَّلُ عليه تين بلادِنا.
الموز- طولُ الموزةِ بينَ 24و30 سنتمتراً، وثمنُها يراوحُ بين 60 و100قرش. ولكنَّ موزَ بلادِنا ألذُّ طعماً.
الفجل- طولُ الفجلةِ 50 سنتمتراً، ولونُها أبيض، وطعمُها غير حرّيف. أمّا ثمنُها فليرةٌ واحدة.
الخوخ- الحبّةُ منه بنصفِ ليرةٍ لبنانيَّة، لكنّ خوخَ بلادِنا يُفضَّلُ عليه بطعمِهِ السكّري.
الكرفس- حجمُهُ كبير، وسعرُ الواحدةِ منه من 400 إلى 700غرش لبناني.
الباذنجان- ثمنُ الواحدة منه 25 قرشاً لبنانيّاً، وطعمُهُ لذيذ، ولا بذرَ فيه قطعاً.
البصل- كبيرُ الحجم، إذْ تبلغُ البصلةُ مقدارَ اثنتين من بصلنا اللبنانيّ، وطعمُه غيرُ حرّيف، فبإلامكان أكلُهُ دونَ خبز. أمّا ثمنُ الواحدةِ منه فـ12 قرشاً لبنانيّاً.
الخيار- ثمنُ الواحدة منه 15 قرشاً لبنانيّاً. حجمُه ضخم، لكنَّ خيارُ بلادِنا يُفضَّلُ عليه.
القثاء- سعرُ الحبَّةِ الواحدة 10 قروش. لكن قثّاء بلادِنا يُُفضَّلُ عليه.
الليمونُ الحامضُ الصغيرُ- الليمونةُ ثمنُها 60 قرشاً لبنانيّاً.
البرتقال- سعرُ الحبّةِ 15- قرشاً لبنانيّاً.
الفليفلةُ الرفيعةُ المستطيلةُ- ثمنُ الحبّة قرش لبناني، وهي غيرُ حرّيفةٍ على الإطلاق.
الخبز- يتراوحُ ثمنُ الرغيفِ منه بينَ 50و60و80و100قرشٍ لبناني، حسبَ حَجمِه.
البوظةُ العجيبة
ودخلتُ مع الدكتور خبصا إلى محلٍّ مختصٍ بالمبرّدات.
والداخلُ إلى هذا المكانِ يرى أقداحاً مملوءةً بشتّى أنواعِ المبرّدات، وقد عُرضَتْ وراء خزانة زجاجيّة، فينتفي ما يحلو له منها.
وقد دهشتُ لكؤوسٍ عظيمةِ الحجم طفحَتْ بنوعٍ من البوظة، حتى امتلأتْ الكأسُ وارتفعَ ما بداخِلِها فوقَهَا كالقبّة.
طلبْنَا كأسين، لي ولخبصا، فأحضرتْهُما الفتاةُ، ومع كلِّ كأسٍ ملعقةٌ طويلةُ الساعد.
إنَّ ما وُضِعَ في كلِّ كأس من هذه البوظة الملوَّنة، يكفي خمسةَ أشخاصٍ تماماً. أي عندما ندخلُ إلى أيِّ مكان في بيروت مختصٍّ ببيعِ المبرّدات، فإنّه يضعُ أمامنَا كأساً فيها خُمْسُ ما يضَعُهُ محلُّ المبرّدات الياباني.
أما ثمنُ الكأسِ فيتراوحُ بين 120و160قرشاً لبنانيّاً، حسبَ نوعِ البوظةِ المطلوبة.
في 20آب 1969
حُلمٌ رهيبٌ
استيقظتُ في الساعةِ الواحدةِ بعدَ منتصفِ الليل على أثرِ حُلمٍ رهيبٍ تراءى لي في أثناءِ نومي.
فقد شاهدتُني أسيرُ مع شقيقتي أنتوانت ترافِقُها صديقتُها السيّدة فوت. وقد وصلنَا إلى حدودِ مدينةٍ لا أذكرُ أسمَها، وعلى هذهِ الحدودِ يقومُ حانوتٌ صغيرٌ دخلتُه بقصدِ ابتياعِ قميصٍ منه.
وطلبتُ من شقيقتي وصديقتِها أن تسبقاني، ففعلتا. وبعدَ قليلٍ دخلَ أعرابيٌّ إلى الحانوت، ووجَّهَ كلامَهُ إليَّ قائلاً: إنَّ خطراً عظيماً يتهدَّدُ السيّدتين. فاستخففتُ بحديثِهِ، واستفسرتُهُ نوعَ الخطر، لكنَّه توارى عنْ أنظاري. فهرولتُ مُسرعاً، وأنا أبحثُ بعينيّ عَلِّي أشاهدهُما، ولكنَّ أملي قد خاب. وتسلّقتُ شجرةً غريبةَ المنظرِ والتكوين، إذ كانتْ لا تُشابهُ الأشجارَ على الإطلاق. كانتْ كخشبِ الموائدِ التي تقادمَ عليها الزمنُ فاتَّخذتْ لها شكلاً خاصّاً. كما أنَّ أغصانَها لا تحملُ أيَّةَ ورقةٍ خضراء.
إنّها شجرةٌ ذاتُ أفنانٍ خشبيَّةٍ جافّةٌ ملتويةُ الفروع، وعريُها تامّ.
وفجأةً سمعتُ أنينَ امرأةٍ شبَّهتُهُ بصوتِ رفيقةِ شقيقتي. فكدتُ أُجنُّ، وحاولتُ أنْ أتجاوزَ الغصنَ الذي أقفُ عليه إلى الغصنِ الخشبيّ الأعلى، ولكنْ عبثاً كانتْ محاولتي.
وبعدَ قليلٍ شاهدتُ أعرابيّاً يرتدي ثوبَهُ الأبيضَ المتدلّي حتى قدميه. فنظرَ إليَّ، وصاحَ بأعلى صوتِه، ورَكَضَ نحوي مُهدِّداً مُتوعّداً. وما كادَ يبلغَني حتَّى استيقظتُ، فاستعذتُ بالله، ونظرتُ إلى ساعتي فإذا هي الواحدةُ بعدَ منتصفِ الليل.
جفاني النومُ، بعدَ هذا الحلم المقضّ للمضاجعِ، فظللتْ قَلقاً، أجوسُ بأفكاري الأحلامَ العديدةَ التي تراءَتْ لي في هذهِ المدينةِ (كيوتو).
تُرى، هل هُنالكَ حدَثٌ ما سيقَعُ لي فتتغيَّرُ بواسطتهِ مجرياتُ حياتي، إمّا إلى ويلاتٍ وشرور، أو إلى بهجاتٍ وحبور!
ولكن، هل في هذهِ الحياةِ ما يُطلقون عليه اسمَ (أفراح وسرور)؟! كلاَّ. إنّهَا في الواقعِ أوهامٌ سرابيّةٌ, بل قُل إنَّهَا أضغاثُ أحلامٍ ترابيَّة!
التأَهُّبُ للسَّفَرِ إلى طوكيو
حالَ نهوضِنا من النومِ، بادرتُ إلى ترتيبِ أغراضي التي ابتعتُها من كيوتو، وإلى حَزمِها.
ثم جهّزنا الحقائبَ بمَا وضعتُه فيهَا من تُحَفٍ ثمينةٍ انتخبتُها من متاجرَ كيوتو، وأقفلناها، واستدعينَا موظَّفَ الفندقِ فأنزلها لنا إلى الطابقِ الأوّل تمهيداً لسفرنَا إلى أوزاكا في الساعةِ الثانيةِ بعدَ الظُهر، كي نستقلَّ من مطارِها الطائرةَ فتذهبُ بنَا إلى طوكيو، لأنّ كيوتو ليسَ فيها مطارٌ، فالذاهبُ إلى طوكيو مضطرٌّ للذهابِ إلى أوزاكا لأنّ المطارِ فيها. ولمّا كانتْ الساعةُ ما تزالُ العاشرة، فقدْ استقلّيتُ سيّارةً وتوجَّهتُ إلى مخزنِ كيوتو هند كرفت سنتر الذي قصدتُه بالأمسِ برفقةِ الدكتور خبصا.
وحالَ دخولي إليه، ذهبتُ إلى قسمِ البورسلين الذي سحَرَني أمس، وهذا السحرُ جذبني اليومَ إليه. جوَّلتُ في هذا القسم الذي يحتوي أروعَ ما بلغَهُ الفنُّ البديع، فنُّ زخرفةِ الأواني الصينيَّة برسومٍ لم ترَ العينُ أجملَ منها مطلقاً.
وقد استرعتْ انتباهي أكوابٌ للشاي رائعةُ النقوشِ مموَّهةٌ بذَهَبٍ حقيقيّ. فسألتُ الموظَّفةَ عن ثمنِها، فأجابتني أنَّ هذه القِطَعَ هي ستّةُ فناجين مع صحونِها الستّة، وقد أمضى الفنّانُ في زخرفتِها ستّةَ أشهرٍ كاملة. أمّا ثمنُها فهو 1200 دولار أمريكي.
وراعني صحنٌ رُسِمَ عليه شابٌّ وشابّةٌ يابانيّان واقفان بينَ مجموعةٍ من الأزهار المختلفة، والفراشُ يحومُ حولَهُمَا. وثمنُ هذا الصحنِ الذي يُعلَّقُ للزينةِ هو 2500 دولار.
أمّا العجائبُ الفنيّةٌ الأخرى التي يحتويهَا هذا القسم فحدِّثْ عنْهَا ولا حَرَج.
إلى كيُوتُو تاور أُوتِلْ
ثمّ استقلّيتُ سيّارةً أوصلتني إلى برج كيوتو، وهي المرّةُ الثانيةُ التي أزورُه فيها، وقصدي من زيارةِ اليوم أن أبتاعَ من قمّتِهِ بعضَ الرسومِ الملوَّنة التي تُباعُ لزوّارِ مدينة كيوتو.
لقد سبقَ وذكرتُ أنَّ علوَّ هذا البرج هو 141متراً. ومن قِمَّتِهِ تستطيعُ أنْ تُشاهدَ مدينةَ كيوتو المحاطةَ بالجبالِ من جهاتِها كافّة. وهي حقّاً مدينةٌ ضخمةٌ إذ تضمُّ مليوناً ونصفاً من الأشخاص. ابتعتُ مجموعةً من الصورِ الملوَّنةِ تشملُ جميعَ أمكنةِ كيوتو المهمَّة كالمعابدِ والحدائق والقصورِ التاريخيَّة. ثمّ حاولتُ النزولَ، ظانّاً أنّه بإمكانِي الهبوطُ بالمصعدِ الكهربائي مثلمَا صعدتُ- والصاعدُ إلى قمّةِ البرج يدفعُ 200 ين أي مئتي قرش لبيناني- لكنَّهُم أفهموني أنَّ النزولَ يتمُّ سيراً على الأقدام. فهبطتُ 233 درجة حتى انتهيتُ إلى الطابقِ الخامس، ومنهُ هبطتُ إلى الطابقِ الأولِ بالدرجِ الكهربائي. وعُدتُ إلى الفندق، وقد بلغتْ الساعةُ الثانية إلاّ ربعاً، فوجدتُ الدكتور خبصا ينتظرُني على أحرٍّ من الجمر.
إلى أُوزاكا
واستقلَّيتُ مع الدكتور خبصا سيّارةً انطلقتْ بنَا إلى أوزاكا في تمامِ الساعةِ الثانية بعدَ الظهر، فبلغناها في الثالثة. وقد قالتْ لنا الموظَّفَةُ : في الرابعةِ إلاَّ ربعاً تستطيعون أن تؤشّروا على أوراقِ سفركم. فجلسنَا على مقعدٍ في باحةِ المحطّة، وأكوامٍ من الحقائب والرّزَم الضخمةِ وضعناها أمامنا.
لقد أَثقلتْ كاهلَنا هذه الأغراضُ بكثرتِها. فقد علَّقَ الدكتور خبصا في عنقه آلةَ تصويرٍ فوتوغرافيّة. وحملَ بيدِهِ اليمنى حقيبةً لا بأسَ بحجمِها، كما أنّه أرفقَهَا بلوحتين فنّيتين كنتُ قد ابتعتُهما من أحد مخازنِ كيوتو، وقد حُزِمتا معاص ورُبطتا ربطاً مُحكماً. وقد أمسكَ خبصا بخيطِ هذه الرزمةِ المتين.
إذاً، كان يحملُ بيمناهُ الحقيبةََ مع الرزمةِ وذلكَ بصعوبةٍ كليّةٍ. كما أنَّهُ كانَ يحملُ بيسراه حقيبتين صغيرتين من القماشِ مملوءتين بالتحفِ التي ابتعتُها في خلالِ إقامتي بكيوتو.
أمّا أنا فقد كنتُ أحملُ بيميني رزمةً ضخمةً ثقيلةَ الوزن، وكذلك بيساري، ممّا استلفتَ الأنظارَ إلينا. وفي الساعةِ الرابعة إلاّ ثلثاً، أعطتنا الموظّفةُ رقمَي المقعدين بالطائرة، وسُمِحَ لنا بالدخولِ إلى غُرفةِ الإنتظارِ في المطار. فدخلناهُ ونحنُ مُثقلانِ بما نحمِلُهُ من أمتعة، لأنَّ ليس هُنالكَ عتّال، كما نجدُ في بلادِنا، فكلُّ شخصٍ مسؤول عن أمتعتِهِ.
إلى طوكيو العظيمة
طالَ انتظارُنا حتى الساعةِ الخامسة، وإذ ذاك امتطينَا الطائرةَ فحلّقتْ بنا وضجيجُ محرِّكاتِها يصمُّ الآذان. وهذه الطائرةُ أمريكيّةُ الصنع، وتستوعبُ مئتي شخص ونيّفاً، وسرعتُها ألف كيلومتر في الساعة. والمسافةُ بين أوزاكا وطوكيو 550 كيلومتراً.
وقد وصلنَا إلى طوكيو في تمامِ السادسةِ مساءً، وكانتْ الأمطارُ تهطلُ فوقَها عندَ وصولنا. وحال خروجنا من الطائرة وذهابنا إلى الباحة لنتسلّمَ حقائبَنا الكبيرة، وجدنَا في انتظارِنَا كوباياشي وهو شابٌّ يابانيّ يبلغُ من العُمرِ الثلاثين. ويظهرُ أنَّ هادي حجّار كتَبَ إليه يُعلِمُهُ بقدومِنا إلى طوكيو- وهو يتعاملُ تجاريّاً معه- فاستقبلَنَا، وشاركَنَا في حَمْلِ الحقيبتين الكبيرتين….
واتّجهنا إلى الباحةِ الخارجيّةِ لنستقلَّ تاكسي. وهنا استلفتَ نظري النظامُ البديعُ المُتَّبَعُ في طوكيو، ويا حبّذا لو يُعملُ به في بلادِنا.
كانت سيّاراتُ التاكسي واقفةٌ صفّاً منتظماً، بعضُها وراءَ بعض، والهابطون معنا من الطائرةِ خرجوا إلى الباحةِ مثلنا، فمن خرج، أوّلاً، كان له الحقُّ في أن يستقلَّ سيّارةَ التاكسي، أوّلا، وتلاهُ الذي خرجَ بعدَه، حتى وصلَ الدورُ إلينا، فاستقلّينا تكسي أوصلنا إلى فندق (نيوجايان أوتل)، وبرفقتِنا الشابُّ كوباياشي. وقدْ استغرقتْ المسافةُ من المحطَّة إلى الفندقِ 45 دقيقة، وسجّلَ التاكسي مبلغ 1200 ين أي اثنتي عشرةَ ليرةٍ لبنانيّة.
وقد سبقَ للدكتور خبصا أن حجزَ لنا غُرفةً في هذا الفندق من بيروت. وكانَ رقمُ الغرفةِ المعطاةِ لنا 687 في الطابق السادس. ويضمُّ هذا الفندقِ 500 غُرفة، وهو فسيحُ الأرجاء، وفيه صالوناتٌ عديدةٌ، ومخازنٌ تحتوي على سِلعٍ وتحفٍ فنّية، كمَا فيه مسبحٌ ومطاعم، ويحتوي على كلِّ أسبابِ الراحة.
إلى مَطْعَمٍ يابانيّ
اقترحَ علينا كوباياشي أن نتناوَلَ العشاءَ بمطعمٍ يابانيٍّ عريق. فنزلنَا عندَ اقتراحِهِ، واستقلّينا سيّارةً أوصلتنا إلى المطعَمِ.
جلسنَا على مائدةٍ، وكان بقربِنا يابانيّ يقفُ وراءَ طاولةٍ جعلَ فوقَها منقلاً من النارِ ومقلاةً وضعَ فيها ثلاثةً من القريدس. وبعدمَا نَضَجَتْ قدَّمَها إلينا على قطعةِ خشب، فتناولَ كلٌّ منَّا قريدسة. ولم يُعجبني طعمُها. وما لبثَ أن وضعَ أمامنا ثلاثَ قِطعٍ من السَّمِكِ، لا تعدو القطعةُ منها اللقمة. وما كدنَا نبتلعُها حتى قدَّمَ لنا ثلاثَ قِطعٍ من البطاطا، ثمَّ ثلاث قِطعٍ من الذُرةِ الممزوجةِ بنوعٍ من الطحينِ الياباني. ثمَّ أردَفَها بثلاثِ قِطعٍ من حشائشَ اليابان.
وأُلفتُ نظرَ القارئ إلى أنَّ اليابانيِّين لا يتناولونَ الخبزَ مع طعامِهِم، إلاّ القلّةَ منهم. وكانَ طعامُنا دون خبز. ونسيتُ أنْ أذكُرَ أنَّه قُدِّمَ لكلٍّ منَّا كأساً- كالتي يوضعُ فيها اللبنُ- مملوءةً بالرزّ المسلوق، ولكنِّي لمْ أستَسِغْه.
وقد انتهينَا من طعامِ العشاء، وأنا غيرُ راضٍ عنه.
ذهابُنا إلى مَقْهى أنيق
وسارَ بنا كوباياشي إلى مقهى قالَ إنَّ فيه مشروبات نفيسة. وقد قرأتُ في قائمةِ المشروبات عصيرَ الموز فطلبتُه. وطلبَ الدكتور خبصا مشروبَ البرتقال. أمّا كوباياشي فقدْ طلبَ قهوة.
ولاحظتُ أنَّ الفتياتِ اللواتي تغصُّ بهنَّ مقاعدُ المقهى ينظُرنَ نظراتٍ خاصَّةٍ إلينا، إذ عرفنَ أنَّنا غرباء. وقد فهمتُ أنَّهنَّ من بناتِ الليل. وهذا الصنفُ من النساءِ لا يوجدُ في كيوتو على الإطلاق، إذ يعتبرون كيوتو مدينةً مقدَّسة، وفيها حسبَما عرَفنَا 1600 معبد، ومنزلتُها عندَ اليابانيِّين كمنزلةِ القدسِ عندَ المسيحيِّين.
ذهابُنا إلى مَلْهى ليليّ
ولكي نتعرَّفَ الحياةَ اليابانيَّةَ الأصيلة، ذهبنَا برفقةِ كوباياشي إلى أحدِ الملاهي الليليّة، وهو في الطابق العاشر. دخلنَا إليه فإذا فيه لا أقلَّ من ألفِ شخصٍ، بينَ رجلٍ وامرأة. وعلى كلِّ طاولةٍ رجالٌ ونساء. فإذا دخلَ رجلٌ تجالِسُهُ فتاةٌ فوراً، وإذا دخلَ رجلان تجالسْهُما فتاتان، وإنْ كانوا ثلاثةً فثلاث نساء، وهكذا دواليك… وهذا الأمرُ كنتُ أجهلُهُ تماماً، إذْ لم أدخُلْ، طيلةَ حياتي، مكاناً يُشبِهُ هذا المكان. فأنا عزوفٌ عن هذه الملاهي، ولا أعرفُ عنها أيَّ شيء البتّة.
لذا، كانت دهشتي عظيمةً عندما اقتربتْ ثلاثُ فتيات، وجلسنَ معنا على المقعدِ. فطلبتُ من الدكتور خبصا أن نكونَ بمفردِنَا دونَ هؤلاءِ النسوة، فأجابني: هذا إرغاميّ. وبما أنَّنا نحنُ ثلاثةُ رجال، فقد قَدِمَتْ ثلاثُ نساءٍ لتجالسَ كلُّ فتاةٍ أحدَنَا.
تملَّكني حزنٌ سيطرَ عليّ وهيمنَ على كياني، وأنا أسمعُ الموسيقى الصاخبةَ تضجُّ فيهرولُ على أثرهَا الراقصون والراقصات، وهم يتمايلون إلى اليمينِ واليسارِ والشمالِ والجنوب.
وسألتني الفتاةُ عن إسم بلدي، فأجبتُها بانقباضٍ وبصوتٍ خافتْ كادتْ لا تسمعُه.
وقد دُهِشَتْ لعدمِ اهتمامي بها وإشاحةِ نظري عنها، إذْ رحتُ أنظرُ إلى الموائد، وأنقلُ بصري من مكانٍ إلى آخرٍ لكي لا أُضطرُّ إلى محادثتِها.
ولكنَّها هزَّتنْي وقالت لي: ما بِكَ؟ أجبتُها: لا شيء. وقلتُ لخبصا: دَعْنا نذهب.
ولكنَّها كتَبَتْ لي عنوانَ منزِلِها ورَقمَ تلفونِها، وقالتْ لي: لأوّلِ مرَّةٍ أرى رجلاً لا يهتمُّ بي عندما أُجالسُهُ، وهذا عجيبٌ للغاية!
ووقَفَتْ ووقَفَ خبصا، قاصدين الخروج. غير أنّي لاحظتُ أنَّ كوباياشي قد انسجمَ مع فتاتِه، وطابَ له المقامُ. ولكنَّهُ وقَفَ مُرغَماً طوعاً لرغبتِنَا.
خرجتُ وأنا ألهثُ من هَوْلِ ما شاهدتُه في هذا الملهى، وإنْ يكنْ الوقتُ الذي أمضينَاه لم يَزِدْ عن رُبعِ الساعة.
وكانت الفاتورةُ لربعِ الساعة هذه 3821ينّاً أي 13 دولاراً أمريكيّاً- أي 38 ليرة لبنانيّة.
عودتُنا إلى الفُنْدُق
واستقلّينا سيّارةً أوصلتنا بخمسمائةِ ينٍّ، وكانتْ الساعةُ العاشرةُ ليلاً. وفورَ وصولي استحممتُ، ثمَّ رقدتُ، وكان نومي متقطِّعاً وغيرَ منتظمٍ. وقد ملأتْهُ كالعادة، أحلامٌ عجيبةٌ غريبةٌ لم أعهدها قبلَ اليوم.
في 21آب 1969
تسليمي السِّلَع المبتاعة لإرسالِها إلى بيروت
نهضْنَا، وكانَ نومي غيرَ حسن، إذْ كنتُ قَلِقاً، ونفسيَّتي على غيرِ ما أُريدُه. وفي التاسعةِ والنصف، قدِمَ كوباياشي، فأخرجتُ السِّلَعَ التي سبَقَ أن ابتعتُها في مدينةِ كيوتو- وهي كثيرةٌ ومتنوِّعَةٌ، وقد رتَّبتُها ضَمنَ عُلب، وكان عددُها يربو على المئة- وسلَّمتُها إلى كوباياشي عميل هادي حجّار في بيروت، وطلبتُ مِنهُ أنْ يُرسِلُها إلى هادي. وهكذا تخلَّصتُ من عبءٍ كبير. وقد انتهتْ هذه العمليّةُ في الثانيةِ عشرة ظهراً، بعدَ أنْ استغرقتْ ساعتين ونصفاً.
إلى مُتْحَفِ الفُنُونِ الجَميلَة
واستقلَّينا سيّارةً إلى مُتحفِ الفنونِ الجميلة، وهو يبعدُ عن فندُقِنا ثلثَ ساعةٍ بالسيّارة، وقد بُنيَ على هضبةٍ وسطَ غابةٍ ذاتَ أشجارٍ باسقة.
وفي باحةِ هذا المتحفِ وُضِعَتْ تماثيلُ برونزيَّةٌ بالغةٌ من الفنِّ نهايتَه.
وعندَ دخولِنا طابقه الأرضي- الأوَّل- شاهدنَا تماثيلَ المثّالِ الإفرنسي رودان وهي منسّقةٌ بطريقةٍ هي في غايةِ الكمال، ويربو عددُها على الخمسةِ وعشرين تمثالاً، جميعُها من صُنعِ رودان.
وصعدْنَا إلى الطابقِ الثاني، فإذا هو مُخصَّصٌ للفنِّ الغربيّ. وقد شاهدتُ لوحاتٍ زيتيَّةٍ بأحجامٍ مختلفةٍ للفنّانِ المعروف رنوار وسيزله وكلود مونه وغيرهِم من الفنَّانين الغربيّين.
جَوَّلنا مدَّةَ ساعةٍ في هذا المتحفِ الفخم، ثمّ غادرناه بعدَما ابتعنَا بعضَ الرسومِ المأخوذةِ عن هذهِ اللوحات، والمطبوعة بالألوان. وقد أخذْنَا ما راقَنَا منها، مع بعضِ الكاتالوكات التي تتحدَّثُ عن الفنّانين الموجودة لوحاتُهم في هذا المُتْحَف.
انتظارُنا المُخابرة الهاتفيَّةُ عَبَثاً
بلَغنَا الفندقَ في الثانية إلاّ عشرَ دقائق، لأنّه سبَقَ أن طلَبْنَا، بالأمس، من إدارةِ الفُندقِ أن تصلَنَا الغد ببيروت، بمخابرةٍ تلفونيَّةٍ، فقيلَ لنا: بإمكانِكُم مخاطبةُ بيروت في الساعةِ الثانيةِ بعدَ ظهرِ الغد(أي اليوم).
وفي الساعة الثانية والربع، اتَّصلنا بالإدارة، واستفسرنا عن المخابرة، فقيل لنا: بعدَ ساعةٍ ونصف بإمكانِكُم الإتِّصالُ ببيروت. ومضتْ الساعةُ والنصف، وكان انتظارُنا عبثاً.
وجديرٌ بالذكر أنّه حدَثَ لنا في كيوتو ما حصلَ لنا هنا. فقد حاولنا الإتِّصالَ ببيروت تلفونيَّاً، مرَّتين، وفي كلِّ مرَّةٍ يُعيَّنُ الوقتُ لنا، ثمّ… لا شيء.
وقد اتّفقنا مع إدارةِ الفندقِ على أن تَصِلَنا الغدَ ببيروت، في الساعة الواحدة بعدَ الظهر- تكون الساعةُ في بيروت حينئذٍ السادسة صباحاً- ما دامتْ المخابرةُ اليوم متعذِّرَةً.
إلى مُحْتَرَفِ العاج
وقدِمَ كوباياشي في الثالثة، فذهَبْنا بصُحبتِهِ، بناءً على طَلَبِنا، إلى مصنَعٍ للعاج.
صَعَدْنَا إلى الطابقِ الثاني من هذا المحترَفِ الصغير، فإذا فيه واجهتانِ رجاجيّتان مملوءَتان بالعاجِ المصنوع: نساءٌ عاجيّات، وصيّادو أسماك، وكهنةٌ بوذيّون، وورودٌ تخالُها وروداً حقيقيّةً لدقّة صُنْعِها. ورأيتُ تفّاحتين من العاج خلتُهما طبيعيّتين لعظيمِ إتقانِهِما وتلوينِهما بلونِ التفّاحِ الجلّناري الأخّاذ. وفي إحدى الواجهاتِ رُصِفَتْ الطيورُ بألوانِها العديدة البهيّة، وكأنّها طيورٌ حيّةٌ لروعةِ الفنِّ فيها. وبعدَما تزوّدنا ببطاقةٍ دُوِّنَ فيها إسمُ المحلِّ والشارع، ودّعَنا الموظَّفين، على أملِ عودتِنا إليهم لإبتياعِ ما يروقُنا من التُّحَفِ العاجيَّة.
إلى الأوبرا
في الخامسة مساءً، قصدْنَا الأُوبرا الكائنةَ في شارعِ جنزا وهو شارعٌ رئيسيٌّ تضجُّ الحياةُ فيه.
وفي الليلِ تتلألأُ الأضواءُ في طُرُقِهِ العريضة، ومتاجرِهِ الفخمة، وأبنيتِهِ الأنيقة، فترى نفسَكَ تسبحُ في مُحيطٍ من الأنوارِ المتألّقة، وكأنَّكَ بضيافةِ ملوكِ الجنِّ.
قطَعْنا ثلاث تذاكر، لي ولخبصا ولكوباياشي الذي رافقنا. وابتدأ العَرضُ في الساعةِ الخامسةِ والرُّبع، وتتالتْ المشاهدُ بديعةً رائعة: فكلُّ مشهدٍ يدلُّ على براعةٍ فنيَّةٍ فائقة، وأخرجٍ قويّ، وموسيقى مُبدعَة.
وقد شاهدنَا الرقصَ اليابانيّ الفنّي تقومُ به بضعُ عشراتٍ من الراقصاتِ اليابانيّات بصورةٍ إيقاعيّةٍ ولا أبدعَ منها. وفي السابعةِ والربع، أختُتِمَ البرنامجُ بظهورٍ لا أقلّ من مئة راقص وراقصة يرفلون بحلل زاهية الألوان؛ وهم يؤدّون رقصةً فنيَّةً رائعةً يرافقُها غناءٌ عذبٌ وموسيقى يابانيّةٌ ناعمةٌ تنسجمُ مع الرقصةِ الفنيَّةِ كلَّ الإنسجام. ثم سُدِلَ الستارُ ودوَّتْ موجةٌ من التصفيقِ الشديد.
في أحدِ مَطَاعِم شَارع جنْزا
بعدَ خروجِنا من الأوبرا، ذهَبَ بنا كوباياشي إلى أحدِ مطاعمِ شارع جنزا، قائلاً إنّ الأطعمةَ فيه هي محضٌ يابانيَّة. ولمّا كنتُ بطبيعتي أُحبُّ الخضارَ، وآنفُ من اللحومِ وما شابَهَها، طلبتُ أن يؤتى لي بصحنِ سلطَة. فقيل لي إنَّ السَّلَطةَ غيرُ موجودة، إذْ لا أحَدَ يطلبُها في اليابان إلاّ قِلَّةٌ نادرة.
ولمّا كنتُ، قبلَ دخولي إلى المطعَم، قد ابتعتُ بعضَ الفواكِه وبصلَتين يابانيّتين، فإنِّي أحببتُ أن أتناولَ بصَلَةً مع الطعام. وإذا بخبصا يعترض قائلاً: يجبُ أنْ نحترمَ شعورَ الموجودين، فالبصلُ يُزعجُهُم. فاستغربتُ منه هذا القول، وأجبتُهُ إنَّ هذا لا يجرحُ شعورَهم على الإطلاق، فالإنسانُ حرٌّ في أن يتناولَ ما يروقُه من الطعام. وقد تأثَّرَتُ كلَّ التأثّرِ بعد هذا النقاشِ، وعَدَلتُ عن تناولِ الطعام، إذْ شعرتُ بردِّ فِعلٍ قويّ. وبعدَ جوعي الشديد صدَّتْ نفسي عن الطعام، وكأنَّني قدْ تناولتُ منهُ مقداراً كبيراً. وعدتُ إلى الفندق، ونفسي ثائرةٌ في داخلي، وهي تغلي كالمِرْجَل تتأكَّلُه النيرانُ المتَّقِدَة. ونمتُ نوماً متقطّعاً تملأُهُ أرهبُ الأحلام المرعبة.
في 22آب 1969
حُزنٌ وتفكيرٌ بعدَ حادثتي مع الدكتور خبصا
كانتْ يقظتي قَلِقَة، إذْ إنَّ ما حصَلَ في المطعَم لَيْلَ أمس ما زالَ يُؤثِّرُ بي كلَّ التأثير. ولشدَّةِ انفعالي، قمتُ على غير عادتي: فصمتي كان مُطبقاً. وقد فكّرتُ بأن أختصرَ الرحلةَ وأعودُ بمفردي إلى لبنان. ولكنَّ حُبِّي لمشاهدةِ أمريكا وأُوروبّا منَعَني من تنفيذِ هذه الفكرة. وجالَتْ في مخيِّلتي أفكارٌ عديدةٌ، بل قُلْ وغريبةٌ كلَّ الغرابة! فالله جلَّتْ قدرتُه، وجلَّتْ حكمتُه، هو وحيدٌ فريد- حسبما يُقال- لا يستطيعُ أيُّ مخلوقٍ بشريٍّ أنْ يُعطينا عنه أيَّةَ فكرةٍ ما.
فلو قُيِّضَ له أن يُعاشِرَ ملائكةً أو غيرَ ملائكةٍ، لكان حصَلَ الإصطدامُ يوماً بينهُم لإختلافٍ في الرأي. والدليلُ القويُّ هو في أسطورةِ الملاك العاصي- إذا صَحَّتْ- إذْ إنَّهُ رفضَ السجودَ لآدمَ متمرِّداً على إرادةِ الله عزَّ وجلَّ، فغضِبَ الباري عليه وأسقَطَ درجَتَه الملائكيّةَ فأصبَحَ إبليساً رجيماً. وعليه ارتأت حكمةُ القديرِ أن يكونَ بمفردِهِ، لا يدعُ أيّاً من مخلوقاتِه يحدّثه أو يراه. فهو الله الواحدُ الأحدُ الجبّارُ القهّار، لا نعرفُ عنهُ أيَّ شيء سوى ما دوّنَتْهُ الكُتُبُ التي يُقالُ إنّها مُنزَلَة.
لقد مضى على رفقتي للدكتور خبصا سبعةٌ وعشرون من الأعوامِ تحمّلنا سرَّاءَها وضرّاءَها معاً. وقد جاهدَ الدكتور خبصا في عهدِ بشارة الخوري مثلما جاهدَ سواه من الإخوةِ الأبطالِ الميامين، متكبّدين السجون وكلَّ مشقّةٍ في سبيلِ إعلاءِ كلمةِ الحقّ، دونَ الخوفَ من حاكمٍ ظالمٍ غاشم. وليلةَ أمس، لأجلِ أمرٍ تافهٍ اختلفتُ معه، وشعرتُ بحزنٍ عميقٍ يحتاطُ بي إحاطةَ السِّوار بالمِعصَم، وجعلني أُفكّرُ بأنْ أختصرُ الرحلة، بل جعَلني أُفكِّرُ وأُطيلُ التفكيرَ بوجوبِ اعتزالي عنْ الإخوةِ والناسِ منعاً لتكرارِ ما حدَثَ البارحة في المطعمِ مع الدكتور خبصا. إنّ الحادثَ بسيطٌ للغايةِ لا يحتاجُ لمثلِ هذا التفكير، هذا ما يراه القارئ. أمّا أنا فأقولُ إنَّ الأمر يحتاجُ لتطبيقِ ما أُفكِّرُ به لأسبابٍ أعرفُها ولا أستطيعُ تدوينَها، والغَدُ كشَّاف.
إلى مُتْحَفِ الفنِّ اليابانيّ
NATIONAL GALLERY
في الساعةِ التاسعةِ إلاَّ خمس دقائق، استقلّينا سيّارةً أنا والدكتور خبصا، وذهبْنَا إلى الناشنال غاليري وهو مُتحفُ حكومة طوكيو الرسمي. وهذا المتحفُ يقعُ قُربَ متحفِ تماثيل رودان الذي زرناه بالأمس. وقد بلغناه في تمامِ الساعة التاسعةِ والرُبع. ورَسْمُ الدخولِ إليه 80 ينّاً عن كلِّ شخص. في الطابق الأوَّل تماثيلُ الآلهةِ والإلهاتِ من كلِّ العصور القديمة والحديثة. كما وُضِعتْ في خزائنِه الزجاجيّة الأواني المرصّعةُ بالصَدَف واللاك، وهي من صُنعِ القدامى. كذلكَ حفلَتْ خزائنُه الموضوعةُ في الغُرَفِ الرحبةِ بشتّى أنواعِ الأثوابِ التي كان يستعملُها الأقدمون من اليابانيّين.
وعُرضَتْ أصنافُ السيوف، تلكَ التي شهدتْ أعظمَ المعاركِ هولاً، وكلُّ سيفٍ بجانبهِ ورقةً تشرحُ أمره، وفي أيِّ سنةٍ صُنعَ، ومن هو صانِعُهُ وصاقلُه. والدروع الحديديّةُ التي كان يَلبَسُها المحاربون بزَرَدِها الذي تعجزُ السهامُ عن اختراقِه عُرضَتْ بشكلٍ واضحٍ ليستطيعَ المشاهدُ أن يراها بكاملِ تفاصيلِها. وصعدنَا إلى الطابقِ الثاني فإذا بالرسومِ اليابانيّة تستقبلُنا في واجهاتِها الزجاجيَّة، وقد رُسمتْ على الحرير (وهي الطريقة اليابانيّة في الرسم).
وقد شاهدنا ستائرَ (برافان) مذهَّبةً رُسمَ عليها أشجارٌ تُغرِّدُ على أفنانِها الأطيارُ الملوَّنةُ الريش.
وبلغنا غرفَةً عددتُ لوحاتِها الفنيِّة فإذا هي 14 لوحةً زيتيّةً رسمَها فنّانون يابانيّون، وفنُّها من النوعِ الراقي، ويرجعُ تاريخُها إلى خمسين أو ستِّين عاماً مضت. والرسوم اليابانيّة لا يتجاوزُ عددُها المئة، وقد لفتَ نظري منها لوحةٌ جميلةُ الألوان بارعةَ الفنّ، كُتِبَ على رقعةٍ تحتَها أنَّ من رسمها اسمُه سوميوشي جوكي SUMIYOSHI JOKEI ، وقد وُلِدَ عام 1599 وتُوفي عامَ 1670. وإسمُ اللوحة STORY OF NIGHT . وهي تمثَّلُ تسعةَ أشخاصٍ مع عددٍ من الخيلِ. وقد اعتلتْ إحدى الفتياتِ جواداً، كما امتطى رفيقُها الشابُّ حصاناً آخر.
إنَّ هذه اللوحة نزخرُ بالحيويّةِ والإنسجام، وفنُّها راقٍ وألوانُها جذّابة. وحالَ رؤيتي إياها تذكّرتُ لوحة (سوق الخيل) التي رسمتْها الفنّانةُ الإفرنسيّة المشهورةُ روزا بونير، وهي تمثِّلُ جمهرةً من الخيولِ رُسِمَتْ بريشةٍ ماهرة. وقد بيعتْ هذه اللوحةُ منذُ أكثر من خمسين عاماً بمبلغِ عشرة آلاف جنيه استرليني. واسترعتْ انتباهي أيضاً لوحةٌ يابانيّة أُخرى اسمُها :BATTLE IN THE MOMBOKUCHO PERIOD واسمُ راسمِها كافابه ميتاته KAVABE METATE.
إنَّ هذه اللوحةَ التي تمثّلُ المعركةَ هو لوحةٌ خالدة، فجمالُها يسحرُكَ، وروعةُ ألوانِها تبهرُكَ. فأنتَ ترى شَرَرَ النارِ يُومضُ من حوافر الخيولِ الجَموح وقد امتطاها فرسانٌ تكادُ تلمسُ فروسيَّتَهم وبطولتَهم، وقد امتشقَ كلٌّ منهُم حسامَه الذي يُطلُّ الموتُ من شفارِه القاطع.
وبعد ما زرنا هذا المتحفَ. قَصدنَا متحفاً حكوميّاً آخر بجوارِه، وهو مختصٌّ بآثارِ الحفريات. فأنتَ ترى جميعَ أصنافِ الأباريقِ الفخّاريةِ التي صُنِعَتْ منذُ مئاتِ الأعوام، والأكواب والنقود وشتّى الأنواع التي كان يستعملُها القدامى. وخرجنَا من المتحفِ الثاني لنزورَ شقيقَه، وهو يقعُ بالقربِ منه أيضاً، ويحتوي على الآلهةِ القدامى التي عُثِرَ عليها بأثناء الحفريّات. وممّا شاهدناهُ تماثيلَ آلهة المصريّين وقد نُصِبَتْ في إحدى باحات المتحفِ الواسعة. وكذلك رأيناه مومياء مصريّةً مسجَّاةً وراءَ الزجاج، وهي مُقمّطةٌ بأكفانّها المُدرَجَة فيها منذُ آلاف السنين. وخرجنَا من هذا المتحفِ لندخلَ مُتْحَفاً آخر تذكرةُ الدخولِ إليه بمئتَي ينّ. وكانتْ غُرَفُه عظيمةً الإتّساع، وقد عُلِّقَتْ على جدرَانِها خطوطٌ يابانيّة ضخمة. وبما أنّنا لا نفهمُ اللغةَ اليابانية، لم نعرفْ ما إذا كانتْ اللوحاتُ المخطوطةُ والمعلّقةُ على الجدرانِ هي حِكَمٌ يابانيّة عُرضَتْ في هذا المُتحفِ، أم أنَّها خطوطٌ يابانيّةٌ عُلِّقَتْ ليرى الجميعُ مختَلَفَ نماذِجَ الخطوط. وقد استفسرنا إحدى حارسات المتحفِ عنها، فلم تفهمْ كلمةً واحدةً منّا؛ إذ كلّمناها بالإنكليزيّة، وهي لا تعرفُ إلاّ اللغة اليابانيّة. فسَلَّمْنا أمرَنا لله، وغادرنا المتحفَ الرابعَ لنستقلَّ سيّارةً أوصلتنا إلى فندقِنا، وكانت الساعةُ الثانية عشرة والرُبع، أي نكونُ قد أمضينا ثلاثَ ساعات كاملةٍ في المتاحفِ الأربعة. صعدنَا إلى غُرفتِنا بالفندق، وانتظرنَا المخابرةِ التلفونيّة التي سجّلناها لدى إدارةِ الفندق، بعدَ ظُهرِ أمس، وكنّا قد طلبنا منها أن نُخابرَ بيروت هاتفيّاً، في تمامِ الساعةِ الواحدة بتوقيتِ اليابان، إذ تكون الساعة، حينئذٍ، السادسة في بيروت. فهل تنجحُ هذه المخابرةُ، أم تفشلُ كالمرّاتِ الثلاث السابقة؟
فَشَلُ المخابرَةِ التلفونيَّة
في تمامِ الساعةِ الواحدة، اتَّصلتْ بنَا إدارةُ الهاتف، تلفونيّاً، وأبلغَتْنا أنّ الخطوطَ رَهنُ الإصلاح، ولذا يتعذّرُ وصْلَنَا ببيروت. وهكذا فشِلَتْ المخابرةُ كالمرّاتِ السابقة.
وهذا أمرٌ مؤسفٌ! لأنّهُ غريبٌ حقاًّ أن لا يستطيعُ المرءُ أن يتكلّمَ هاتفيّاً من طوكيو إلى بيروت في عصرِ العلمِ والاختراعاتِ العظيمة التي أتاحتْ للبشرِ أن يتكلّموا مع رُوَّادِ القمرِ وهم في القمرِ نفسِه، وعلى بُعدِ 380 ألف كيلومتر. ولكنّنَا سلّمنا أمرَنا لله وصمَتْنا.
تَجْوالي في متجرٍ فخمٍ ضخمٍ وعظيم
وذهبتُ إلى جنْزا ستريت وهو أهمُّ شارعٍ تقومُ فيه أضخمُ المتاجر ذات الطبقاتِ الخمس والستّ والتسع. ودخلتُ متجراً ضخماً ذا تسعةِ طوابق، وفي كلِّ طابقٍ ما لم ترَه عين. إنّها كنوزٌ عظيمةٌ لا تُقدَّرُ بأموال. وإنَّكَ تستطيعُ أن تبتاعَ من هذا المخزنِ من أبخسِ الأشياء حتى أبهظها ثمناً. وقد قضيتُ فيه ثلاث ساعات كاملة، ولم أُنجزْ منه الربعَ. ولمّا كانتْ هذه المتاجرُ تُغلقُ أبوابُها في السادسة، قُرعَ الجرسُ مُعلناً أنَّ الوقتَ قد أزفَ لإقفالِ أبوابِ المتجرِ. فخرجَ الجميعُ وأنا معهُم، وقد بَهرني ما شاهدتُه من سِلَعٍ فنّيةٍ سأبتاعُ منها غداً الشيءَ الكثير.
في 23آب 1969
أمطارٌ وبرقيَّةُ فريد
نهضتُ من النوم، وإذا الجوُّ مكفهرُّ، والريحُ تصفرُ وتزمجرُ، والأمطارُ تنهمرُ بغزارةٍ فائقة. ومع أنّي ارتديتُ بذلتي الصيفيَّة، فلم أشعُرْ ببرودةِ الطقسِ لأنَّ الجوَّ دافئ، واليابانُ يطلقون عليها اسم (بلاد الشمس المشرقة).
وفي التاسعة والنصف، قُرعَ بابُ غرفتنا، وكان موظَّفُ البرقِ والبريدِ يحملُ لي برقيّةً من الدكتور فريد أبو سليمان في بيروت ردّاً على برقيَّتِنا له بالأمس. وبرقيّتُه مُقْتَضبَةٌ للغاية- لا تُغني ولا تُسمنُ- فما كانَ أغنانَا عنِ الإنتظارِ وإرسالِ البرقيّات، لو كتبَ لنا رسالةً منذُ أيّام. ولكنَّ الدكتور فريد أصلحَهُ الله بطيء بأعمالِهِ بُطءَ السلحفاة، وهذا يُلحقُ بنا أضراراً ما كان أغنانا عنها لو كان نبيهاً. ولكن مَنْ شَبَّ على شيءٍ شابَ عليه.
في مَخْزَنِ متزوكوشي العظيم
في العاشرةِ إلاَّ ربعاً، وصَلَ كوباياشي، فاستقلَّينا معاً سيَّارةً إلى شارعِ جنزا ستريت، وهو قلبُ العاصمةِ طوكيو، ففيه تقومُ الملاهي، والأوبرا، والمخازنُ العظمى ذاتَ الطوابقِ المتعدِّدة الممتلئةِ بكلِّ ما يطلبُهُ الإنسانُ، كما تقومُ فيه بناياتُ سوني، وتوشيبا، وغيرُهما.
وبعدَ وصولنا إلى هذا الشارع، دخلنا بنايةَ متزوكوشي ذاتَ الطوابقِ الثمانية، وكلُّ طابقٍ منها يحتوي على شتّى أنواعِ السِّلَع. وقد جُلنا فيها ثلاثَ ساعاتٍ كاملةٍ دونَ أن نستنفدَ مشاهدةَ المعروضات. وفي الساعةِ الواحدة، تناولنَا طعامَا بطابقِها العُلويّ الذي يضمُّ مطعماً شاسعاً رَحْبَ المدى، وقد صُفَّتْ فيه موائدُ بالغةُ الأناقة كانتْ تغصُّ بالجالسين وهم يتناولون طعامَهُمْ. والخدمةُ في هذا المطعمِ بمنتهى الجودة. وبعدَ أن فرغنا من تناوُلِ الطعام، طلبنا من كوباياشي أن يصحَبَنا إلى مَتحفِ بردجستون أوف آرْت.
إلى مُتْحَفِ بردجستون أُوفْ آرْت
في الساعةِ الواحدةِ والنصف، توجَّهتُ أنا والدكتور خبصا وكوباياشي إلى متحف بردجستون أُوف آرْت المبنيُّ في حيِّ كيوباشي KYOBASHI بطوكيو، وهو يضمُّ مجموعةَ السيّد شوجيرو إيشي باشي SHOJIRO ESHIBASHI . وهذه المجموعةُ المهمَّةُ من اللوحات الشهيرة هي مُلكُه الخاصّ، وهي معروضةٌ في هذا المتحف المُخَصَّصُ لها.
ولوحاتُ هذه المجموعةِ متنوّعةٌ، ابتداءً من بول ريبنْس وانتهاءً بييكاسّوا. وعلاوةً على هذه اللوحات، يضمُّ هذا المتحفُ، أيضاً، قِطعاً فنّيةً قديمةً من تماثيلَ وغيرِها، منها مصريّة، ومنها يونانيّة ورومانيَّة. وفضلاً عن ذلك، فيه أيضاً 250 لوحة لفنّانين يابانيّين رسموها على طريقة الفنِّ الغربي. ولا شكَّ أنَّ هذا المتحفَ يضمُّ مجموعةً خطيرةً لمشاهير الفنّاين الغربيّين، منهم: كلود مونه، رامبرانت، ده لاكروا، أدولف مونتسكي، أونوره دوميه، كاميل كورو، إدوار مانه، بول سيزان، رنوار، كاميل بيسارو، وقد شاهدتُ لوحةً له في هذا المتحف اسمُها الحصاد، يُقلِّدُ فيها لوحةَ الحصاد المشهورة لميلهِ والموجودة بمتحفِ اللوفر- وإدغار ديغا، وألفرد سيزله، وبول سِنْياك، وجان إدوار، وفلامنغ، وهنري ماتيس، وجورج براك، وموريس أوتريّو، وآندره دسان، ومارينو ماريني، وراوول ديفي، وبيير لابراد، وآندره لوت، وفان دونغن، وآندره دواميه ده سكونزاك، وماري لورنسان، ومارك شاغال، وآميدو مودلياني، وجورجيو وشيريكو، وبيير بونار، وهنري روسو، وفان غوغ، وبول أوجين، وجورج روو، وتولوز لوتريك، وأخيراً بيكاسّوا الأكذوبةُ العالميّةُ التي سقطَ في شِركِها الجميع.
ومن الفنّانين اليابانيّين: كيروداسيكي، وهاراد ناوجيرو، وأوكي شيكيري، وآسايي شو، وفيجاشيمي تاكه جي، وساكاهوتو هانجيرو، وإمه هاراريه زابيرو، ويازوي سوتارو، وياما شيتا شنتارو، وماكينو توراو، وساييكي بيه زو، وشام سوتان. وأخيراً الفنّان الياباني الشهير فيجيتا تسي جي جي FUJITA TSUGUJI الذي قطنَ مدّةً من الزمنِ في باريس، ويضمُّ هذا المتحف خمساً من لوحاته، وأثمانُها باهظةٌ. وقد وُلدَ هذا الفنّانُ اليابانيّ عام 1886 وتوفِّي عام 1968.
ستُّ ساعاتٍ سيْراً على الأقدام
ذكرتُ أنَّنا غادرنا الفندقَ في العاشرة صباحاً، وقد عُدنَا إليهِ في السادسةِ مساءً. إذاً يكون قد مضى على خروجِنا ثماني ساعات، قضينا مِنها ساعتين عندما تناولنا الطعام، وأوانَ جلسنا مرَّتين في مكانين لتناولِ المرطَّبات فنكونَ قد سِرنا في شوارعَ طوكيو ومخازِنِها المتعدِّدَة مدَّةَ ستّ ساعاتٍ كاملة. وما أن دخلتُ إلى غُرفتي حتى شعرتُ أنَّ قدميَّ تكادان لا تحملانني، فاستحممتُ بعدَ سيري الشاقّ، ثمّ أويتُ إلى فراشي أنتظرُ الغدَ وما يحملُهُ لي بينَ طيّاتِهِ.
في 24آب 1969
إلى كماكيرا مروراً بيوكوهاما
نهضتُ باكراً من فراشي، وبدأتُ أُدوِّنُ ما تمَّ معي أمس. وفي التاسعةِ والنصف، قدِمَ دسكي DIESKI وهو يعملُ مع كوباياشي. وقد إستقلَّيتُ والدكتور خبصا سيَّارةَ دسكي قاصدَين مدينةً كماكيرا اليابانيّة التي تبعدُ عن طوكيو مدَّةَ ساعتين بالسيّارة، وساعةً بالقطارِ الحديديّ. سِرنا نصفَ ساعةٍ في طريق ممتدَّةٍ وممهَّدةٍ، كنَّا نمرُّ خلالَها في سهولٍ شاسعةٍ مترامية الأطراف؛ وقد بُنيَ في تلكَ المساحاتِ عشراتُ الآلافِ من الأبنيةِ والمنازلِ بنظامٍ دقيقٍ لا تشوبُه شائبةُ. ثمّ وصلنا إلى مدينةِ يوكوهاما ويقطُنُها مليونان من البشر. وهي ذات مساحةٍ عظيمةٍ تقومُ فيها الأبنيةُ والمخازنُ الكبرى، كما فيها حدائقُ ومُتنَزَّهات في غاية الأناقة. وأكملنا سيرَنا مدَّةَ ساعةٍ كاملة حتى انتيهنا من مدينة يوكوهاما- أي استغرقَ سيرُنا ساعةً كاملةً بالسيَّارةِ حتى قطَعْنَا المدينة- من هُنا يُدركُ القارئُ مقدارَ مساحةِ هذه المدينةِ العظيمةِ.
ووصلنَا ، بعدَها، إلى قرية كمترى، وهي مُنتجعٌ يابانيّ جميلٌ تُحيطُ به جبالٌ كثيفةُ الأشجار، ظليلتُها.
وأخيراً، وصلنَا إلى مدينة كماكيرا، بعدَ ساعتين إلاّ عشرَ دقائقَ من ركوبِنا السيّارةَ في طوكيو. وهُناكَ شاهَدنا كوباياشي الذي كان ينتظِرُنا، فصحبناهُ فوراً إلى مبعدِ بوذا الذي لا يبعدُ أكثرَ من رُبعِ ساعةٍ سيراً على الأقدام. وقد ارتقينا فيهِ أكثرَ من مئة درجة، يقومُ في نهايتِها معبدُ بوذا بينَ الأشجارِ الباسقة. وفي مقدِّمَةِ الهيكلِ وُضِعَ صندوقٌ ضخمٌ طولهُ حوالي المترين، وعرضُهُ تسعونِ سنتمتراً. وكان حشدٌ من اليابانيّين، قَدَّرتُ عددَهُ بثماني مئة شخصٍ بينَ رجلٍ وإمرأة، متجمهراً حولَ الصندوق، وكلٌّ منهم يُلقي بقطعةِ نقودٍ فيه، ثمَّ يضمُّ يديه بخشوعٍ وهو يتمنَّى أن يتحقّقَ أمرٌ ما يطلبُه.
وقد قال لي كوباياشي إنَّ الكهنَةَ يجمعونَ كلَّ يومٍ أكثرَ من 500 دولار ممّا يُلقيه أفرادُ الشعبِ في هذا الصندوق؛ وفي أيّام الأعيادِ الدينيّة، حوالي الألفُ وخمسمائة دولار أمريكيّ يستولي عليها الكهنةُ. وبعدَما أخذتُ عِدَّةَ رسومٍ بالآلة الفوتوغرافيّة والسينمائيّة، غادرنَا المعبدَ تحتَ أشعّةَ الشمس المرتفعةِ الحرارة.
في مُتْحَفِ الفُنُون الجَمِيلةِ بكَماكيرا
بالقربّ من معبدِ بوذا يقومُ متحفُ الفنون الجميلة لمدينة كماكيرا، وهو ذو طابقين. وقد عُرضَ فيه 120 لوحةٍ زيتيّةٍ لفنّانين يابانيّين. وفي جناحِه الأيسرِ دخلتُ إلى غُرفتِهِ الفسيحة وقد عُلِّقَ في جدرانِها 40 لوحةٍ منها خمسٌ وعشرون لوحة-NU لنساء عاريات بمختلفِ الأحجام.
وقد كان سروري كبيراً لوجودِ هذا المتحفِ في هذهِ المدينةِ الصغيرة. فذلك يُبرهنُ أنّ الشعبَ اليابانيّ مفطورٌ على حبِّ الفنونِ الجميلة، ومتاحفُهُ المتعدِّدَةِ في مُدُنِهِ وقراه تؤكِّدُ صِحَّةَ قولي.
رِسَالةٌ تُنْبئُني بوفاةِ الأخ المُجَاهِد
جورج حدَّاد
وذهَبْنَا إلى مَطْعَمٍ لنتناوَلَ فيه الغداء، وإذا بكوباياشي يقول: لقد تسلّمتُ مساءَ الأمس رسالتين من بيروت لكما. وسلّمَنا رسالتين إحداهُما من الدكتور فريد، والأُخرى من هادي حجّار، وهما يُنبئانَنا بأنَّ الأخ الحبيبَ المجاهدَ جورج حدّاد قد تُوفِّيَ الأحد الماضي، في الساعةِ الواحدةِ والنصفِ بعدَ الظهر، إثرَ غيبوبةٍ استمرَّتْ ثلاثةَ أيّامٍ كاملة. وقد دُفِنَ في جونيه بمدفَنِ الدكتور خبصا. وهذا المدفنُ يضمُّ حتى اليوم رفاتَ أعزّاءٍ أحبّاءٍ على قلبي وهُم: المأسوفُ على صباهَا المجاهدةُ الرئبالةُ ماجدا حدّاد، ثمَّ والدتي، وبعدَها أوديت زوجة الدكتور خبصا، والآن جورج حدّاد الداهشيّ.
فتبّاً لكِ يا حياة! ما أحقرَكِ، وما أتفهَ شأنكِ، وما أشدَّ غباءَ كلَّ من يتشبَّثُ بأسبابِ هذه الدُنيا الواهية! وما أوقعَ هذه الأبيات الشعريَّة في وصفِ الموت وتفاهةِ دنيانا الفانية:
إنَّما الدُنيا فناءٌ ليسَ للدنُيا ثبوتْ
إنَّما الدُنيا كبيتٍ نَسَجَتْهُ العنكبوتْ
ولعُمري عن قليلٍ كلُّ من فيها يموتْ
ثمّ هذا البيتُ الرائعُ الذي يُرينا حقارةَ الأرض ومصيرَ كلِّ حيٍّ فيها:
كلُّ ابن انثى وإنْ طالتْ سلامتُه يوماً على آلةٍ حدباءَ محمولُ
فيا لله! ما أشقى الإنسان، وما أتعسَ مصيرُه!
لقد ذرفتُ دمعةً حرّى على هذا الأخِ المجاهد، هذا الأخُ الصالحُ، هذا الأخُ الطيّبُ القلب، الحييّ، المُسالمُ، هذا الأخُ الذي انزوى طوالَ رُبعِ قرنٍ في منزلِهِ لا يخرجُ منه بعدَ حادثِ الخلافِ العظيمِ الذي وقعَ بينه وبينَ عديلُه بشارة الخوري رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة السابق، وذلك بسبب نزعهِ جنسيّتي عنّي بالظُلمِ والإعتداء. ألا بلَّلَ الله جدثَكَ بغيثِهِ المدرار، وجمَعَني بكَ في عالم الخلودِ، هناكَ حيثُ لا بكاءَ ولا ترح، بل نعيمٌ وفرحٌ حتى الأبد.
الأخْطَبُوط
بعدَ خروجِنا من المطعم، مررنَا بشارعٍ فيهِ كنيسةٌ نُقِشَ على واجِهتِها رسمٌ مُلوَّنٌ للسيدةِ العذراءِ، فقال لنا كوباياشي إنّها كنيسةٌ كاثوليكيّة. فدهشنا لقولِه، إذْ إنَّ البلادَ بوذيَّة. ولكنَّهُ أُخبِرنا أنَّ في اليابان ديراً فيه راهباتٌ يابانيّاتٌ اعتنقن الكثلكةَ، كما أنَّ هُنالكَ بعضَ الكنائس الكاثوليكيّة في مدنٍ يابانيّةٍ أُخرى.
عودتُنا بالقِطَارِ إلى طُوكيو
وفي الساعةِ الخامسةِ بعدَ الظُهرِ، استقلّينا القطار، عائدَيْن إلى طوكيو. وهو قطارٌ سريعٌ يضمُّ إحدى عشرةَ عربة، وتستوعبُ كلُّ عربةٍ 66 راكباً، أي في كلِّ قِطارٍ 726 شخصاً. ولكنَّنا شاهدنا، فضلاً عن الجالسين في مقاعدِهِم، عشراتِ العشرات وقوفاً. إذاً كلُّ قِطارٍ يستوعبُ ضعفَ حمولتِهِ، أي حوالي 1500 شخص. ومع أنّه في كلِّ سبعِ دقائق يَصِلُ قِطار، فإنَّكَ لا تستطيعُ أنْ تجدَ لكَ مقعداً تجلسُ عليه لكثرةِ الناس إلاّ فيما نذَر.
وهذا ما حدَثَ لنا، إذْ إنَّنا، بعدَ صعودِنا القطار، لم نجدْ مقعداً شاغراً، فمكثنا وقوفاً طِوالَ نصفِ ساعة، حتى بلغَ القطارُ مدينةَ يوكوهاما. عندَ ذاك، وبعدَ نزولِ عددٍ من الركَّابِ، وجدنَا بشقِّ النفس مقعدين شاغرين احتللناهما قبلَ أن يحتلَّهُما الصاعدون من يوكوهاما.
وانتهى القِطارُ بنَا إلى طوكيو في تمامِ السادسة مساءً، أي استغرقَ سيرُهُ من كماكيرا إلى طوكيوا ساعةً كاملةً، بينمَا قطعتْ السيّارةُ هذه المسافةُ بساعتين. وقد بارحنا المحطَّة، واستقلّينا سيّارةً أوصلتنا إلى الفندق. وللفورِ استحممتُ، وأبدلتُ بذلتي المبتلّة من أعلاها إلى أسفلِها بالعرقِ الذي نضحَ به جسمي خلالَ النهار، وقلتُ للدكتور خبصا: دعنا نزورُ برجَ طوكيو.
في بُرْجِ طُوكيو الجَبَّار
كانت الساعةُ الثامنةُ والنصف ليلاً، عندما ارتقينا إلى البرجِ الحديديِّ الجبّار الذي لا يبعدُ عن فندقِنا أكثرَ من عشر دقائقَ بالسيّارة.
وهذا البرجُ قد بُني على غرار برجِ إيفل الحديديّ في باريس، ويعلو برجُ إيفل عن الأرض 300متر.
أمّا برجُ طوكيو فيعلو عنْ الأرضِ 333متراً، وقد رقيناه بمِصْعَدٍ رَحبٍ عَدَدْتُ من بداخِلِهِ فكانوا 30 شخصاً.
وفُتحَ المصعدُ، وقالتْ لنا إحدى موظَّفات البرج: أنتم الآن على عُلوِّ 150متراً، ويوجدُ دَرجٌ بإمكانِكُم أن ترتقوه، إذا أردتُم، إلى إرتفاعِ مئةِ مترٍ أخرى، فتصبحونَ على عُلوّ 250متراً. ولمّا كان الدكتور خبصا مُرهقاً، فضّلنا أن نبقى حيثُ وصَلْنا، أي على عُلوِّ 150متراً.
كانت طوكيو تتألّقُ بالأنوارِ الكهربائيَّة، فكأنَّها بحرٌ من نور يتوهّجُ بتلكَ الأضواء التي تتأجَّجُ بلمعانِها الذي يخطِفُ الأبصار. كانت طوكيو تبدو كجنِّية تزيّنتْ بالأنوار المتألّقة ببريقِها الخلاّب! سُحرتُ بهذا المنظرِ الأَخّاذ، وقلتُ يا لجبروت الإنسان الضعيف! إنّه يُخفي ضعفَهُ بمثلِ هذه المشاريعِ الضخمة. وقديماً طغى نمرود الجبّارُ وبغى، وتكبَّرَ وتجبَّرَ، ثمَّ قَتَلَتْهُ بعوضةٌ حقيرةٌ!
في 25آب 1969
رحلتي إلى نيكّو وزيارتي لمعبدِ فيتارازان
نهضتُ باكراً إذْ كانتْ الساعةُ الثالثةُ والثلث صباحاً، ودوَّنتُ وقائعَ يومِ أمس. وفي السابعةِ والربع، هبطتُ والدكتور خبصا إلى الطابق الأوَّل، وانتظرنا الأوتوبيس الذي سيقلُّنا إلى مدينة نيكّو NIKKO ، وهي مصيفُ مدينةِ طوكيو. كانَ الأوتوبيسُ، عندَ وصولِه، يُقلُّ عدداً من السيّاحِ الأمريكان من فنادقَ غيرَ فُندقِنَا، ذاهبينَ إلى نيكّو. وقد تقاضتْ الشركةُ من كلٍّ منهُم ومِنَّا مبلغْ ثلاثةَ عشرَ ألف ينّ، أي أربعين دولاراً أمريكيّاً.
أوصلتْنا السيّارةُ إلى محطَّةِ القِطارِ الحديديّ، وكُنَّا عشرون شخصاً بين رجلٍ وامرأة. وقد زوَّدَتْنا الشركةُ بفتاةٍ يابانيّة لتشرحَ لنا عنْ الأماكنِ والمعابدِ التي سنزورُها في نيكّو.
في تمامِ الساعةِ الثامنة والنصف، تحرَّكَ القطارُ بنا، ثمَّ انطلقَ يُسابقُ الريح. إنَّ الطريقَ من طوكيو حتى نيكّو هي سهلٌ فسيحٌ مترامي الأطراف. والمسافةُ 140 كيلومتراً. وعددُ سكّان مدينة نيكّو 33ألف نسمة. وابتدأنا نرى عن اليمينِ واليسار، في تلكَ السهولِ المنبسطة، آلافاً من المنازلِ اليابانيّة المبنيّةِ من الخشبّ، وسقوفها من القرميد، وهي ملتصقةٌ بعضُها بجانب بعض، ولا تتعدّى الطابقين. وشاهدنا غاباتٍ مترامية في هذه السهولِ العجيبة لا مثيلَ لروعَتِها وتناسقِ أشجارِها الخضراء. وحاولتُ، جهدَ استطاعتي، أن أرى أشخاصاً بالقربِ من البيوت، سواء أكانوا رجالاً أم نساءً، فلم أُفلح. وطوالَ الرحلة التي استغرقتْ ساعتين، لم أشاهِدْ، في عشرات الألوف من تلكَ المنازل المتلاصقة، أكثرَ من عشرةِ أشخاص. والسببُ هو انصراف الجميع إلى أعمالهم. وأخيراً، وصلنا إلى مدينة نيكّو، بعدَ سيرِ ساعتين. وكان أوَّلُ مكانٍ وقفتْ فيه السيّارةُ أمام معبدِ فيتارازان FUTAARASAN SHRINE.
وقد طُلبَ منّا أن نخلعَ أحذيتنا وندخلَ إلى المعبد، ففعلنا، وجلسنا على الأرض لنشاهدَ فتاتين تقفان أمامَ تمثالِ بوذا.
وقُرعَ طبلٌ دويُّه عظيمٌ، تلاه مزمارُ ملأَ بأنغامِه أرجاءَ الهيكل. وكان قارعُ الطبلِ كاهناً بوذيّاً، وكذلكَ صاحب المزمار. وكانت صبيَّة بوذيَّة تقرعُ بكلتا يديها صنجين نحاسيّين. وعلى أنغامِ هذه الآلاتِ الثلاثيّة، أخذتْ الفتاتان ترقصان رقصاً دينيّاً عجيباً. فتارةً تُمسكُ كلٌّ منهما سيفاً بتَّاراً، وتؤدّي بواسطتِهِ حركاتٍ لا أعجبَ ولا أغربَ منها؛ وطوراً تتناولُ إحداهُما قضيباً نحاسيّاً عُلِّقتْ فيه عشراتُ الأجراس الصغيرة، كلٌّ منها يُصدرُ نغمةً تختلفُ عن نغمةِ الجرس الآخر. ودويُّ الطبلِ الغريبِ مع المزمارِ والصنجِ تُوجّهُ الراقصتين لأداءِ رقصِهِما البالغ الغرابة. واستمرّتْ هذه الصلاةُ البوذيَّة حوالي ربعَ الساعة، والجميعُ عيونُهم شاخصةٌ إلى ما يشاهدونَه. أمّا أنا فقد شعرتُ بحزنٍ عميقٍ يتملّكُني ، ويُسيطرُ عليّ سيطرةً تامّة. فهل بالطبلِ والمزمار يدعو المرءُ خالقَه؟! وهل بالصنوج تفتحُ السماءُ كُواها؟! وهل بالرقص وتحريك السيف تهبطُ النِعَمُ الإلهيّة؟!
إنَّ المرءَ يستطيعُ أن يتوجَّهَ بقلبِهِ إلى الله جلَّتْ قُدرتُه، فيسمعُ الله صلاتَه، سواءً أكانَ هذا المرءُ في الطريقِ أمْ في المنزل، أم في سيّارة أم طائرة. إنَّ بوذا العظيمَ الذي كان وليّاً للعهدِ تركَ زوجتَه الشابّة، وتركَ أُبَّهةَ المُلك، والثروةَ الطائلةَ، واعتزلَ العالم، لأنَّه أيقنَ أنَّ مجدَ هذا العالمِ ليسَ إلاَّ وهماً باطلاً وظِلاًّ حائلاً. ومع أنَّ بوذا سبقَ المسيحَ بستمائةِ عام، فإنَّ ذِكرَه ما يزالُ قائماً، ومعابدُهُ وتماثيلُهُ تملأُ بلادَ سيام، واليابان، وما ذلك إلاّ لأنَّه انتصرَ على المادَّة، وسحقَ الشهوة، وقهرَ نفسَه فتغلَّبَ على رغباتِ الجسدِ الحقيرة. لهذا السببِ تأسَّستْ الديانةُ البوذيّة، ولهذا السببِ تبعَهُ الملايين والبلايين من الخلائق في خلالِ هذه الـ2500عام.
وكذلك غاندي ما كانت لتتبَعَه لو لم يُقهِرْ جسدُهُ ويتغلَّبْ على ميولِه، ويفضِّلُ العالم الآخر على عالمنا المادّي الحقير. وينطبقُ هذا القولُ على السيد المسيح. فما كان للدين المسيحي أن ينتصرَ وينتشرَ لو لم يتغلّبْ السيدُ المسيح على رغباتِ الجسدِ ويدسُها بقدميه بقوّةٍ وجبروت.
فالناسُ يعلمون أنَّهم لا يستطيعون قهرَ ميولِهِم ورغباتِهم المتأجّجة بين ضلوعِهم. وعندما يجدون رجلاً استطاعَ ذلك يوقنون، إذ ذاك، أنَّه من غير طينتِهم ما دام قد استطاعَ سحقَ رغباتِه. فيتبعونه، وهكذا أولادُهم، وأولاد أولادِهم، ويبقى ذكرُه خالداً يتناقلُه الخلفُ عن السلف. إنَّ بوذا لم يأمر بقرعِ الطبول ونفخِ المزامير وضربِ الصنوج، ولم يُوصِ بالرقصِ في معابده. ولكنَّهم رجالُ الدين البوذيُّون هم مَن ابتكروا هذه المراسيمَ التي لا تمتُّ للدين بأيِّ سبب. خرجتُ من المعبدِ وأنا حزينٌ من هذه المظاهرِ الوثنيّةِ التي شاهدتُها في معبدِ بوذا العظيم.
إلى فندقِ لاكيسيد LAKESIDE
ثمَّ إلى الشَّلاَّلات
وتوجَّهنا إلى الفندقِ حيثُ تناوَلنا طعامَ الغداء، واسترحنا ساعةً كاملةً، ثمّ سارتْ بنا السيّارةُ قاصدةً شلاَّلات المياهِ المتساقطةِ بجبروت.
كانتْ غاباتٌ لا نهايةَ لها من أشجارِ الأرزِ الجبّار تمرُّ بنا ونحنُ نسير. وعندَ رؤيتي لها عرفتُ كيفَ استطاعوا بناءَ آلافِ الهياكلِ من خشبِ الأرز، إذْ إنَّه عندما قيلَ لي إنَّ هياكلَ اليابان قد بُنيتْ من خشبِ الأرز، ولم أكُنْ أعرفُ هذه الغاباتِ، تملّكني العجبُ، وقلتُ في نفسي تُرى أثمَّةَ أخشابٍ أرزيّةٍ تكفي لبناءِ آلافِ المعابد؟! وبعدَ قليلٍ، برزَتْ أمامَنا جبالٌ شاهقةٌ غيرَ التي شاهدتُها عندما ذهبتُ إلى كيوتو. وتلكَ الجبالُ كانتْ أكثرَ شبهاً بالتلالِ منها بالجبالِ الحقيقيّة. وقالتْ لنا الفتاةُ اليابانيّةُ التي زوَّدَتْنا الشركةُ بها إنّ هذا الجبلَ يعلو 1300 متر. ثم راحت تُنشدُ نشيداً تُمجِّدُ فيهِ مدينةَ نيكّو بلغتِها اليابانيّة. وعندما انتهت، قالت: سأعيدُ إنشادَه لكُم بالإنكليزيّة. وأخذتْ توزِّعُ علينا رُقعاً كُتِبَ النشيدُ عليها بخطِّ يدِها، وطلبَتْ مِنَّا أن نرافقَها بالإنشاد، مستعينين بالورقةِ التي وزَّعتْها للسيّاح.
وراحتْ تُنشدُ بالإنكليزيّة والسيّاح يرافقونَها بالإنشاد. ولمّا انتهتْ صفّقوا لها كثيراً. وطوالَ الطريق، كانت تقصُّ علينا بواسطةِ المُكبِّر، أطرفَ الحوادث ووجهُها مُشرقٌ وثغرُها باسم. وقد لاحظتُ أنَّ هذه الفتاةَ واسعةُ الخبرة، إذْ إنّها ذاتُ لباقة، وسرعةُ خاطر، وكانت بديهتُها حاضرة، وبسمتُها رافقتنا طوالَ مدَّةَ الرحلة. وبعدَ مسيرِ نصفِ ساعة، وصلنَا إلى مركزِ الشلاّلِ العظيم KAGON FALLS ، فأدخلونا إلى مصعدٍ يستوعبُ أربعين شخصاً، وهبطوا بنا مئةَ متر، ثمَّ فُتِحَ المصعدُ فخرجنا منه إلى ممرِّ يقاربُ طولُه الثمانين متراً، سرنَا فيه وبنهايتِه هبطنا 45درجة، ثمَّ صعدنا عشرَ درجات، وإذا بباحةٍ منبسطةٍ وقفنا فيها، ومنها شاهدنا الشلاّل الجبّار تتساقطُ مياهُه إلى الوادي من عُلوٍّ يربو على المئة متراً، ويدويّ، فتُرجّعُ الأوديةُ أصداءَ مياهِه المتحدِّرةِ بإنتظام.
وسحَرَنا هذا المنظرُ الرائعُ فمكثنا فترةً من الزمنِ ونحنُ مشدوهون أمامَ فتنتهِ الأخّاذّة. وقد صوَّرناه بالآلة السينمائيَّة والفوتوغرافيَّة، ثم قفلنا عائدين إلى السيّارة.
إلى شلاّلِ ريوزو RYUZU WATER FALLS
وسارتْ بِنَا السيّارةُ نحوَ رُبعِ ساعةٍ، ثمَّ انتهينا إلى مكانٍ جبليٍّ مُحاطٌ بآلافٍ من أشجارِ الأرزِ الضخمة. ووراءَ الغاب يقومُ جبلٌ فيه فرجة منبسطةٌ متَّسعةٌ من الصخورِ يزيدُ طولُها على الثلاثمائة متراً، وينسابُ فيها شلاَّلُ مِنَ المياهِ المتدفّقَة. وهي تبدو بجمالٍ رائعٍ وفتنةٍ قلَّ نظيرُها. ولقد أُخِذنا بهذه الفتنةِ الخلاَّبة، وقُلنا: حقّاً إنَّ نيكّو من المدنِ الجميلة. وهي مصيفٌ يُفضَّل على مصايفِ لبنان بجمالهِ الفائق، ورقَّة هوائه، وعذوبةِ مائِه، وكثافةِ غابِهِ.
إلى معبدِ توشوغي TOSHOGU SHRINE
وذَهَبْنَا إلى معبدٍ بوذيٍّ قديمٍ رائع النقوشِ والتماثيلِ التي تزيّنُ حواشيه. وقد بُني هذا المعبدُ في غابةٍ عظيمةٍ من الأرزِ اليابانيّ. وقَبلَ دخولِكَ إلى المعبد، تجدُ في الناحية اليسرى باجودا PAGODA اسمُها غوجي نوتو GOJU-NO-TO ، وهي ذاتُ ألوانٍ خلاَّبة، وعلوّها أربعونَ متراً، وقد بُنيَتْ عام 1650، واحترقتْ عام 1815. أمّا بنيانُها الحالي فيرجعُ إلى سنة 1818. أمّا معبدُ توشوغي فقد كلَّفَ بناؤه 28 مليون دولار، وبلغَ عددُ العمّالِ الذي اشتركوا بتشييدِه 9آلاف شخص. وهو يتألّفُ من عدَّةِ أبنية. وعندما تلجُ بابَه الرئيسي تجدُ ثلاثةَ أبنيةٍ مُلَوّنَةٍ ومزخرفةٍ بألوانٍ تأخذُ بمجامعَ القلوب، وهي تُستَعملُ للألبسةِ والأسلحةِ التي تُستَخدمُ في الأعيادِ والحفلات الدينيَّة.
وعلى رتاج أحد الأبنية الثلاثةِ تمثالا فيلين: أحدُهُما أسودٌ والآخرُ أبيض. وهم يعتبرون الفيلَ الأبيضَ مقدّساً. وقد نحَتَ هذين الفيلين الفنّان اليابانيّ المشهور كانو تانيو KANO TANYU وهو رئيسُ (مدرسة كانو) الفنيّة في القرن السابع عشر. وقد نحتهما مستعيناً بخيالِه، ومستنداً إلى ما قرأهُ من وصفِ الفيلةِ في الكتاب، أي إنّه لم يُشاهدْ أيَّ فيلٍ ما قبلَ نحتِهِما. وتجاهَ الهيكلِ الذي نُحتَ على رتاجِه الفيلان الأسود والأبيض، يوجدُ هيكلٌ آخر نُحِتَتْ على رتاجِه السعادين الثلاثةِ المشهورة: واحد يضعُ يدَهُ على فمِهِ، والآخر على أذنيه، والثالثُ على عينيه، وهي تعني أنني لم أتكلَّمْ، ولم أسمعْ، ولم أرَ، أو بعبارةٍ أُخرى:
سلامةُ الإنسانِ في حفظِ اللسان
وقد دُهشتُ لروعةِ نحتِ هذه السعادين بصورةٍ فنّيةٍ غير منقوضة.
وعندَ نهاية الطريق، بعدَ المعبد المنحوت على رتاجِه السعادين الثلاثة، يوجدُ بيتُ الماء المقدّس، وكلُّ من يريدُ الدخولَ إلى المعبدِ عليه أنْ يغسلَ يديهِ به. وقبلَ ولوجِكَ المعبد يقعُ نظرُكَ على نقوشٍ رائعةٍ لطواويس ملوّنة الريش وأزهارٍ فتّانة، وقد رُصِّعَتْ بها جدرانُ الهيكلِ بصورةٍ بالغة الحسن. وفي داخلِ المعبد غرفةٌ لا تفتحُ إلاّ بالمناسباتِ والأعيادِ الدينيّة.
وشدَّ ما أدهشني، أوانَ دخلتُ المعبد، فَرْشٌ كبيرٌ لا يقلُّ طولهُ عن المترين، بعرض متر، وقد انتثرتْ فيه النقود، وعُلِّقتْ فوقَه مرآةٌ معدنيّة. وسألتُ الفتاة التي رافقتنا عمّا تعني هذه المرآة، فأجابتني: إنّها مرآةٌ مقدّسة. فأنت تقفُ أمامَها وتفكّرُ بأمرٍ تريدُ أن يتحقّقَ وترمي قطعةَ النقود على الفرشِ الموجودِ تحتَ المرآة، فيتمُّ ما تصبو إليه.
فعرفتُ فوراً أنَّ هذه البدعةَ من اختراعِ رجال الدينِ ليملأوا أكياسَهُم بنقودِ من يصدّقون مثل هذه الاختراعات. وبالواقع، كان يقفَ أمامَ المرآة لا أقلَّ من خمسين شخصاً، وكلٌّ منهم يُلقي ما تجودُ به نفسُه، ويطلبُ ما يرغبُ أن يتحقّقَ.
العَوْدَةُ إلى طوكيو
في تمامِ الساعةِ الخامسةِ مساءً، استقلّينا القطارَ من مدينةِ نيكّو، فبلغنا طوكيو في الساعةِ السابعة. وقد ذهبنَا توّاً إلى فندقِنا، وبعدَ أنْ تناوَلنَا طعامَنَا، استلقينا على سريرينَا طلباً للنوم.
في 26آب 1969
ذهابُنا إلى مَصْنَعِ كوباياشي
في الساعةِ التاسعةِ والنصف، قدِمَ كوباياشي، فاستقلّينا أنا والدكتور خبصا تكسي معه، ونحنُ مُحمَّلون بالتحفِ التي ابتعتُها في خلالِ إقامتي بطوكيو، وذهبنا إلى المصنعِ الذي يرئسُهُ كوباياشي، وقد وجدتُ الغرفةَ متّسعةً، وعددتُ الموظَّفين والموظَّفاتِ فإذا هم ثلاثونَ عاملاً وعاملة. وأدخلَنا كوباياشي إلى غُرفتِهِ، فإذا رفوفُها مملوءَةً بالسِّلَعِ التي يُصدرُنَها لأنحاءِ العالمِ كافَّة. وقد انتقيتُ منها ثلاثَ سِلَعٍ أُعجبتُ بها، وطلبتُ من كوباياشي أنْ يشحَنَها لي إلى بيروت مع مجموعةِ السِّلعِ التي سلَّمتُها إليهِ عندما اصطحبناهُ بالتاكسي إلى محلِّ عمَلِهِ. ثمّ ذهبنَا برفقتِهِ إلى محلَّةِ جنزا التي تُعتَرُ قلبَ طوكيو، ولولبَ حركتِها. وقد صعدنَا إلى ثلاثةِ متاجرَ ضخمةٍ يضمُّ كلٌّ منها ثمانيةَ طوابق مفعمةٍ بكلِّ ما يطلبُهُ الرجلُ أو المرأةُ أو الطفل. وقد ابتعتُ من هذه المتاجرِ لوحاتٍ فنّيةٍ ثمينة، وطلبَ كوباياشي من أصحاب المتاجرِ أنْ يُرسلوا إلى مصنعِهِ ما ابتعناهُ منهُمْ ليُرسِلَهُ إلى بيروت.
في مَصْنَعِ العاج
ثمّ استقلّينَا سيّارةً ذهبَتْ بنا إلى مصنعٍ للعاج فيه قطعٌ بمنتهى الإبداعِ الفنّي، انتخبتُ منها خمس قِطعٍ ذاتَ أثمانٍ باهظة. وقد حاولنا أن نساومَ صاحبَ المصنعِ ليحسمَ لنا عشرةً بالمائة، ولكنّه رفَضَ رفضاً باتّاً، قائلاً: إذا حسمنا لكم ما تطلبون نكونُ قد أعطيناكم إياها برأسِ المال.
وهبطنَا من مصنعِ العاج النفيس، وأوصلَنا كوباياشي إلى مصنعِه، بعدمَا مكَثَ معنا ستَّ ساعاتٍ كاملةٍ. وقد ودّعناه على قارعةِ الطريق دونَ أن نصعدَ إلى مقرِّ عملِه، وأعلمناه بأنَّنا، غداً صباحاً، سنستقلُّ الطائرةَ متوجّهين إلى هونولولو.
نومٌ فَيَقَظَةٌ
عُدنَا إلى الفندقِ بعدَ مسيرِ ستِّ ساعاتٍ متواصلةٍ لم نتوقّفْ خلالَها مطلقاً. وحالَ وصولي، استلقيتُ على فراشي، ورحتُ أجوبُ عالم الأحلام، عالمَ العجائبِ والغرائب، هذا العالمُ الذي يدعُكَ يوماً بفرحٍ وسرور، ليُريكَ في يومٍ آخر أفظعَ أنواعِ الشرور. وعندَ يقظتي، قال لي الدكتور خبصا: لقد امتدَّ نومُكَ ساعتين كاملتين. فارتديتُ ثيابي، وعُدنا إلى جنزا ستريت، وجُلنا فيه كثيراً، وزُرنا مخازِنَه مخزناً مخزناً، حتى كَلَّتْ أقدامُنا من السَّير المتواصلِ، لأنّنا سنسافرُ غداً، ومَنْ يدري؟ أتُتاحُ لنا زيارةُ طوكيو ثانية، أم يغيّبُنا الثرى في أحشائِهِ مثلما وارى قبلَنَا المَلايين؟ وقد عُدنا إلى الفندقِ، ونحنُ نلهثُ من شدَّةِ التعبِ والسَّغب.
في 27آب 1969
إلى محطَّةِ الطَّيَرانِ بطوكيو
نهضتُ في الرابعةِ والُربعِ صباحاً، بعدَ أنْ جافاني النومُ، وباشرتُ ترتيبَ حقيبتي تأهُّباً لوصولِ السيّارةِ التي ستُقلّنا إلى محطَّةِ طيرانِ طوكيو. وقد سدَّدَ الدكتورُ خبصا حسابَ الفندقِ، عن مبيتِ ستَّةِ أيّام، مبلغَ 128 دولاراً أمريكيّاً. وفي الساعةِ الثامنةِ تماماً، وصلتْ سيّارةُ الأوتوبيس فاستقلّيتُها أنا والدكتورُ خبصا، وسارتْ بنا إلى فنادقَ أُخرى في العاصمةِ ليستقلَّها السيّاحُ الذاهبون إلى هونولولو، وكان عددُهُم، بعدَ أنْ اجتمعَ شملُهُم، 24مسافراً، فضلاً عنِّي وعن الدكتور خبصا. وقد بلغتْ السيّارةُ محطَّةَ الطيرانِ في التاسعة.
وصولُ كوباياشي بخُفَّيْ حُنَيْن
ولمْ نُباشرْ المعاملاتِ الرسميّةِ فورَ وصولِنا، بل جلَسنَا ننتظرُ قدومَ كوباياشي، لأنَّنا اتَّصلنَا به في الساعة السابعةِ صباحاً، وأعلمناه أنَّهُ سبَقَ لنا أنْ سلَّمناه حقيبةً تحتوي على نشراتٍ تتعلّقُ بالبلدان التي زُرنَاهَا، وعلى رسومِ المعابدِ التي شاهدنَاهَا مع أوراقِ الفنادقِ التي نزلَنَا بها. وكما يبدو، وضعنَا، سَهْواً، مع هذه الأوراقِ والنشرات، رقعةً فيها عنوانُ سيّدةٍ تقطنُ في الألاباما. وأفهمنَا كوباياشي أن ينتبِهَ فلا يُخطئ بالحقيبة، قائلين له: بالأمسِ سلَّمناكَ حقيبةً فيها نشراتٌ تتعلّقُ بمدينة كيوتو ونيكّو، وبعضَ الكاتالوكات التي ابتعناها من المتاحفِ التي زرناها. وحذّرناه أنْ لا يُخطئ فيأتينا بحقيبةِ الأمس، وهذه ليسَ فيها عنوانُ السيّدة. فردَّ علينا بالإيجاب. وكوباياشي يقطنُ في ضاحيةٍ من ضواحي طوكيو تبعدُ عن العاصمةِ ساعةً كاملةً بالقِطار. وقد قالَ لنا إنّ المصنعَ الذي يرئسهُ لا يفتحُ قبلَ التاسعة، فقلنا له اذهَبْ الآن للمصنعِ وانتظرْ قدومَ من يحملُ مفاتيحَ المصنعِ في التاسعة، وفوراً ائتِنا بالحقيبة، ونحنُ ندفعُ لكَ أجرَ التكسي. لهذا السبب لم نُباشرْ المعاملاتِ الرسميّة، وجلسنَا على أحدِ مقاعدِ المحطّة ننتظرُ وصولَ كوباياشي. وفي تمامِ الساعةِ التاسعةِ والثلث، أعلنتْ المذيعةُ أنَّه يتوجَّبُ على ركّابِ القسم الثماني مئة أن يتقدَّموا لإجراءِ معاملاتِهم، وإلاّ فالطائرةُ لا تنتظِرُهُم.
فاضطُررنا مُكرَهين أن نذهبَ إلى دائرةِ الأمنِ العامّ في المحطَّة، ونقومُ بالإجراءات الرسميّة. وما بلغتْ الساعةُ التاسعةْ والنصف- وكانتْ معاملتنا قد انتهت، ونحنُ نهمُّ بالهبوطِ لندخلَ الطائرة- حتى سمعتُ صوتاً يستدعيني بلهفة، طالباً أن أتوقَّف. وإذا به كوباياشي وقد تأبَّطَ الحقيبةَ المرجوَّة. وحالَ مشاهدتي إيّاها استأتُ الاستياءَ كلَّه، وقلتُ له: لقد أحضرتَ الحقيبةَ التي سلّمناكَ إيّاها بالأمس، مع أنّنا حذّرناكَ من الخطأ.
ومع أنَّ التكسي يُؤشِّرُ عدّادُه- من المصنعِ الذي يرئسُهُ كوباياشي حتى المحطَّة- 1300ين، فقد نقدناه 2500ين، وهي الباقية لدينا من النقودِ اليابانيّة، وهي تُعادلُ 25 ليرةٍ لبنانيّة.
وحلَّقتْ بنا في الساعة العاشرةِ والنصف
جلسنَا على مقاعِدِنا- وقد وضعَ كلٌّ مِنَّا الحزامَ الجلديّ حوله- وانتظرنا أن تحلِّقَ الطائرةُ بنا، ولكنّها لمْ تحلّقْ إلاّ في الساعةِ العاشرةِ والنصف.
وفي الساعة الحادية عشرة، تقدَّمتْ مضيفتان تحملُ كلتاهُما بيدِها قميصاً غريبةَ التفصيل، إحداهُما في مقدِّمةِ الطائرة، والثانيةُ في مؤخِّرتهما، وجعلتا تُفهمان الركّاب كيفيّةَ استعمال هذه القميص، فيما لو وقَعَ مكروهٌ للطائرةِ وسقطتْ في البحر. وبلَّغَتا الرُكَّاب أنَّ كلَّ راكبٍ يوجدُ تحتَ كرسيِّهِ الجالسِ عليه قميصٌ يستطيعُ أن يسحبَهَا فورَ وقوعِ الخطرِ ويرتديها. ثمَّ أشارتا إلى عدَّةِ أمكنة في هيكلِ الطائرةِ الداخلي مُؤشَّرٌ عليها بالأحمر. وعندما يضغطُ الزرَّ الكهربائيّ يُفتحُ باب سريٌّ ويقذفُ الراكب، على إثرِه، بنفسهِ إلى لجَّةِ البحر. وهنا التفتَ الدكتور خبصا إليّ وقال: هل أنتَ خائفٌ؟ فأجبتُهُ فوراً: لمَ أخافُ ما دام:
كلُّ ابنِ أنثى وإنْ طالتْ سلامتُهُ يوماً على آلةٍ حدباءَ محمولُ
سماءٌ فماءٌ ففضاءٌ
إنَّ المسافةََ بين طوكيو وهونولولو هي 6297 كيلومتراً. ومنذُ جُلوسِنا في الطائرةِ حتى بلوغنا هونولولو، كنَّا نطيرُ فوقَ المحيطِ الباسيفيكي. وبما أنَّ الطائرةَ كانت تحلِّقُ على عُلوِّ ألف متر، فإنَّنا كنَّا ننظرُ إلى الأسفلِ فلا نرى إلاّ زرقةَ الفضاءِ الذي تملأُه محيطاتٌ من الغيوم. إذاً تحتَنا سماء، وتحتَ السماءِ ماء (أي المحيط الهادئ)، وفوقَنا الفضاء.
لهذا أبلغتْ المضيفةُ الركّابَ أنْ يرتدوا القميصَ إذا وقعَ مكروهٌ ما للطائرةِ، ويُلقوا بأنفسِهِم في البحر، لأنْ ليس ثمَّةَ من يابسةٍ. وعندما يُسحبُ شريطٌ في هذه القميصِ تنتفخُ مُصبحةً كالقارب. وهكذا تطفو بمن في داخِلِها حتى تمرُّ سفينةٌ أو زورقٌ فينقذُ من قُيِّضَتْ له النجاة.
سُرعةُ 950 كيلومتراً بالساعة
كانت الطائرةُ الجبَّارةُ تُحلِّقُ بنا على إرتفاعِ 12 ألف متر، وبسرعة 950 كيلومتراً في الساعة، وعلى متنِها 150 راكباً. فأيُّ ماردٍ من الجنِّ استطاعَ أن يحقِّقَ هذا الأمرَ الذي أصبحَ واقعيّاً في هذا العصر، عصرَ العِلمِ والإختراعاتِ وصنع البدائعِ العلميَّةِ المذهلة. وجيءَ لنا بالطعام، فكانَ دَسِماً تناولناهُ بشراهة. والجديرُ بالذكرِ أنَّ كلَّ راكبٍ يستطيعُ أن يُنزلَ من ظَهرِ الكرسيِّ الذي يجلسُ عليه الراكبُ أمامه، قطعةً مربّعةٍ من الخشبِ مُثبتةٍ بالكرسيّ، فإذا بها كمائدةٍ يوضَعُ طعامُهُ عليها. ثم سكبتْ لنا القهوةَ الساخنةَ أو الشاي حسبما يرغبُ كلٌّ منَّا. وبعدما تناولنا الطعام، تقدَّمت إحدى المضيفات وبيدها ورقة وقلم، وسألتْ كُلاًّ من رُكَّابِ الطائرةِ عمّا يريدُ أن يتناوله من المشروب أو المأكول. وكانت تُدوِّنُ طلباتِ الرُكَّابِ كلٌّ حسبَ رغبَتِهِ. وقد طلبَ الدكتور خبصا كوبين من الجعة وعلبة من سجائر مارلبورو، فجيءَ لنا بعلبتين مختومتين مبرَّدتين يابانيّتين، وقد ثُقِبَ أعلاهُما، وكان ثمنهما مع علبة السجائر دولاراً أمريكيًّا واحداً.
فِلم سينمائيّ
وطُلبَ منَّا أن نُنزلَ الستائرَ المُثبَتة على النوافذ، وعُرضَ علينا فِلمٌ سينمائيٌّ استغرقَ ثلاثَ ساعاتٍ إلاّ ربعاً، وذلكَ مَلْئاً للوقتِ وإبعاداً للسآمةِ والمَلَلِ عن الرُكَّابِ. وانتهى عَرضُ الفلم في الساعة الثالثةِ إلاّ ربعاً.
وعند ذاك تقدَّمت المضيفة، وبيدِها صحيفةٌ يوميّةٌ باللغةِ الإنكليزيّةِ كانت تحملُ منها أعداداً وزَّعتها على الركّابِ ليطَّلعوا بواسطتها على الأخبار. كما أنَّها سألتْ كُلاًّ منَّا عمّا يُريدُهُ من الأغاني لتُذاع، وكانت تُدوِّنُ رغبةَ كلِّ راكبٍ وراكبةٍ على ورقةٍ تحملُها بيدها.
منظرٌ رائعٌ قلَّ نظيرُهُ
فوراءَنا نورٌ وأمامَنا ديجور
كانت الساعةُ الثالثةُ والربع تماماً عندما شاهدتُ بدهشةٍ عظيمةٍ أنَّ الأفقَ أمامنَا بدأت تسوده ظلمةٌ كانت تمتدُّ وتتكاثفُ شيئاً فشيئاً. أمّا وراءنا فكان نورٌ ساطعٌ يأخذُ بمجامعَ القلوب. وما ذلك إلاّ لأنَّنا قد اقتربنا من خطِّ الاستواء. وكلّما اقتربنا إلى الأمام تكاثفتْ الظُلمةُ، حتى تغلَّبتْ الدجنَّةُ على النهار وانتصرتْ قوّاتُها على قوّاتِهِ فهزمتها شرَّ هزيمة.
وظهرتْ أمامَنا أنوارُ هونولولو الفاتنة
وفي الساعة الخامسة والربع، ظهرَتْ لنا أنوارُ هونولولو وهي تتألّقُ كأنَّها الدُرَر اليتيمة.
وجعلتْ الطائرةُ تهبطُ رويداً رويداً، وقد خفَّفتْ من سُرعتِها كثيراً، حتى استقرَّت على الأرض. ثمَّ أخذتْْ تدرج حوالي خمس دقائق حتى بلغتْ بنا أمام مبنى ضخم. وهنا فُتحتْ أبوابُ الطائرةِ ووُضِعَ السلَّمُ عليها، فنزلنا بينما وقفتْ المضيفاتُ على رأس السلَّمِ يودَّعْنَنا بابتسامةٍ ولطف. وتقدَّمنا مع جوازات سفرنا للأمن العام، فأشَّرَ عليها، ثمَّ إلى الجمركِ حيثُ سألنا الموظَّفُ إذا كنَّا نحملُ أشياء، وما هي؟ فأجبناه: بعضُ الهدايا من طوكيو. وفتحنا حقائبنا، وإذا بعلبةٍ بحقيبةِ الدكتور خبصا وقد وُضِعَ فيها بقعةٌ عليها عنوانُ سيّدةِ الألاباما، فشكرنا موظَّفَ الجمركِ الذي كان السببَ بوجودِ هذا العنوان الضروريّ. وقد وَضَعَ الموظَّفُ على حقائبنا إشارةَ المرور.
في طوكيو 27 آب
وفي بيروت 27 آب
وفي هونولولو 26 آب
واستقلّيْنا سيّارةَ أُجرةٍ إلى فندقِ هِلْتون الذي سبق أن حجزْنَا فيه غرفةً من بيروت بواسطة شركةِ البان أميركان. وهم يتقاضون ثلاثةًَ وثلاثينَ دولاراً أمريكيًّا عنّي وعن الدكتور خبصا، للنومِ فقط دونَ طعام. وفي الطريق، سألْنا السائقَ عمّا تكونُ الساعةُ الآن في هونولولو، فأبلغنا أنّها الحادية عشرةَ والنصفِ ليلاً، بينما كانت ساعتنا تشير إلى الخامسة والنصفِ بعدَ الظُهرِ، على توقيتِ طوكيو، في طوكيو أو في بيروت، في 27 آب. وسبب هذا الإختلافِ هو الدورة الشمسيَّة. وقد استغرقَ سيرُنا من المحطَّةِ حتى الفندقِ ثلثَ ساعة، وقد أشَّرَ عدَّادُ الساعةِ ستَّةِ دولاراتٍ أمريكيَّة.
وعند وصولنا، هرعَ أحدُ موظفي الفندق الذي يضمُّ 1800 غرفة، فأخذ حقائبَنَا، وصعدْنَا معهُ إلى غرفتِنَا في الطابقِ الخامسِ عشر, وكان رقمُها 1520. دخلناها فوجدناها فخمةً للغاية، وقد توافرتْ فيها أسبابُ الراحة كلُّها: من تلفون، وتلفزيون، وبرَّاد، وماء ساخن وبارد، ونظافة تامَّة، وحمَّامٍ فاخر، مع خزانةٍ جميلةٍ لوضع ثيابِنا، وسجَّادةٍ جميلةِ النقوش، ولوحاتٍ فنّية تزين الغرفة، وتُضفي على جمالها جمالاً.
ونظرتُ من الشرفة، فإذا أنوارُ هونولولو تتراقصُ لشدَّةِ بريقِها العجيب. وبدَتْ ناطحاتُ السحاب فيها المُشعَّةِ بالأنوار فتنةً للنظر. وكانت أشجارُ النخيل الباسقة تزيدُ الجمالَ جمالا. وشاهدتُ أمام فندقِنا بحيرةً صغيرةً رائعةً من الماء الصافي، وفي وسطها قطعةُ مستديرةٌ من الأرض وقد زيّنَتْها أشجارُ النخيلِ والأزهارُ الفاتنة.
ولمّا بلغتْ الساعةُ الواحدة بعد منتصفِ الليل أويتُ إلى فراشي بإنتظارِ الغدِ وما سيحملُه لي بينَ طيَّاتِه.
في 28آب 1969
وبهولولو
27آب 1969
عمليَّةٌ جراحيَّةٌ
نهضتُ من فراشي باكراً، مع أنَّني نمتُ في الساعة الواحدةِ ونيّف بعدَ منتصفِ الليل، ولكنّي لم أخرجْ من الفندق قبلَ التاسعةِ والنصف، لأنَّ الدكتور خبصا كانَ مستغرقاً في النوم. وبعدَ يقظتِه خرجتُ معه إلى حلاّقٍ قريبٍ من الفندق.
أجلسَتْني فتاةٌ هاواويَّةٌ على كرسي الحلاقة، وباشرَتْ قصَّ شعري بآلةٍ كهربائيَّة. وعندما انتهتْ، سألتْني: أتريدُ حلقَ ذَقْنِكَ أيضاً؟ فأومأتُ إليها أن: نعم. وهُنَا ضغطَتْ زرّاً، فإذا الكرسيُّ يستقيمُ أفقيّاً بالقضاء، وكأنَّهُ تختْ، وأنا مُمَدَّدٌ عليه كأنَّني نائمٌ في فراشي.
ومدَّتْ يدَها إلى منشفةٍ يتصاعدُ البخارُ مِنْها، وكانت موضوعةً في قِدرٍ صغيرةٍ، وقد وُضِعَ على القدر، ومع ذلك كان البخار بتصاعدُ من خِلالِه.
وفتحتُ المنشفةَ المطويَّةَ كمربَّعات، ووضعتُها على ذقني ووجهي ثم على عينيّ. فكدتُ أصيحُ لشدَّةِ الحرارةِ التي لسَعَتْ وجهي وعينيّ. ولكنَّني تمالكتُ ولم أنبسْ ببنت شفة. وقبلَ أن تبرُدَ تماماً رفعَتْها، فشكرتُ الباري بسرّي على خلاصي من هذا العذابِ الساخن. ولكنِّي فوجئتُ بمنشفةٍ أخرى وضعَتْها يدُ الفتاةِ الرشيقةِ على وجهي، وللمرَّةِ الثانية تألّمتُ لِلَسْعِها وجهي وعينيّ، حتى أقسمَ أنَّهُما دمعتا كثيراً، ولم أستطعْ فتحهما إلاّ بصعوبة. وللمرَّةِ الثالثة وضعتْ لي منشفة، ولكنَّها هذه المرَّةُ باردةٌ. وأخذتْ نوعاً من المراهمِ طلَتْ به وجهي، ثم جعلتْ تدلّكهُ دلكاً متواصلاً حتى بلغتْ بي الروح التراقي. وما لبثتُ أن استلَّتْ موسى حلاقةٍ يلمعُ في حدِّها الموتُ، وأخذتْ تحلقُ ذقني المسكينة التي كانت تحت رحمتها. والخلاصةُ ما انتهتْ حتى كادتْ روحي تزهق. وللمرَّة الأخيرة تناولتْ المنشفةَ الساخنةَ لوضعِها على وجهي، ولكنِّي لم أدَعْها تفعل، إذ قفزتُ عن كرسيِّ وأنا أشكرُها مشيراً لها بأنَّني في غِنىً عن فوطَتِها ذاتِ اللهيبِ البغيض. وقد بلغتْ فاتورةُ حلاقتي مع قصَّةِ الشعرِ عشرةَ دولارات أمريكيَّة- أو اثنتين وثلاثين ليرة لبنانيّة ونصف الليرة. إنَّ من يسافر في رحلةٍ حولَ العالم عليه أن يفتحَ في المصرفِ حساباً ضخماً لتسديدِ نفقاتٍ جنونيَّةٍ طارئةٍ ما كانت لتخطرَ له في بال.
جَوْلَةٌ في متاجر مَدينة هاواي
كانتْ الساعةُ الحادية عشرة والنصفِ عندما سرتُ على قدمَيَّ في شوارعَ مدينة هاواي السحرية لأرى كلَّ شيء، وأُمتّعَ نظري بحدائِقِها، وبحيراتِها، وأشجار نخيلِها الباسق، وأزهارِها العجيبة العديدة الأنواع، ومتاجرِها، وحوانيتها، وبفتيات هاواي السمراوات اللواتي لوَّحتهنّ شمسُ الباسفيك وهنَّ يخطرن في كلِّ مكانٍ تزينُ أعناقِهنَّ عقودٌ من مختلفِ أزهار حقول هاواي اليانعة. ومكثتُ سائراً ساعةً كاملة تحت حرارة الشمس اللاهبة، حتى خفتُ أنْ أصابَ بضربة شمس، إذ احمرَّ وجهي، وأصبح رأسي يغلي كالقدرِ الموضوعةِ فوقَ الجمر.
ومرَّتْ بقربي فتاةٌ هاواويَّةٌ وبرفقتها امرأةٌ مُسنَّة. فسألتُها هل المدينة من هنا أم من هناك؟ أجابتني: أنا ووالدتي ذاهبتنان إليها فسِرْ معنا. ثم سألتني: من أيَّة بلاد أنت؟ أجبتُها: من لبنان، وأقطنُ بمدينة بيروت، فصاحت:” أنَّ المرحومَ والدي من لبنان، وأنَّه من طرابلس الشام، من آل سعدي”. وقد دمعَتْ عينا والدتِها. وتابعتْ قائلة: لقد قدِمَ إلى هاواي وقطنَ فيها، وقد توفّي منذُ عامين. ودعتاني لزيارتِهما في منزلهما، فوعدتُهما أن أزورَهما برفقة الدكتور خبصا.
وكُنَّا قد وصلنا إلى مخازن هاواي الكبرى، فودَّعتُهما على أملِ زيارتهما في أقربِ فرصةٍ.
فتياتٌ عارياتٌ
أو
عصرُ العهارة
دخلتُ متاجرَ عديدةٍ، وشاهدتُ سلعَهَا المختلفة المعروضة في بيوتِها الزجاجيَّة. ورأيتُ الألوف من مختلف الجنسيّات، ولا سيَّما من الأمريكان، وهم يدخلون ويخرجون من هذه المتاجرِ الضخمة. ولكنَّها أقلُّ ضخامةٍ وفخامةٍ من متاجرِ شارع جنزا في طوكيو. وبعين العجبِ، شاهدتُ فتياتٍ أمريكيَّاتٍ كثيراتٍ وهُنَّ يسرنَ في الشوارعَ والمتاجر، حافيات الأقدام، عاريات الأجساد إلاّ من رقعةٍ صغيرة تسترُ مكانَ عفَّتَهُّن، ومثلها حول نهودهنَّ، وكأنَّ الأمر عادي وأقلُّ من عادي. فدهشتُ دهشةً كبرى لهذه البدعةِ المُريبة، وقلتُ: حقّاً إنَّ عصرَ سادوم وعامورة اللتين أنزلَ اللهُ عليهما نارَه وكبريتَه لم يبلغْ هذه الدرجةَ من العهارة والاستهتارِ بالشرفِ والإنسياقِ وراءَ الشهواتِ والنزوات!
وإذا سمعتُ يوماً أنَّ زلزالاً إلهيّاً قد دمَّرَ من المُدنِ الفاسدةِ ما دمَّر، ومَحَقَ الملايين وعصَفَ بهم عصْفاً مأكولاً- إذا تمَّ هذا، ولا شكَّ أنَّهُ سيتمّ، فإنَّني لنْ أتعجَّبْ، بل سأردِّدُ أنَّ العدالةَ الإلهيّة كان من الواجب أن تقتصَّ من هذا الجيلِ الذي غرق بمآثمِهِ الرهيبة، وشربَ كأسَ شرورِه حتى الثمالة. فيا أيُّها الجيلُ الفاسق! أيُّها الجيل العابثُ بالأخلاق! أيُّها الجيلُ الذي طلَّقَ الحياءَ وامتزجَ بالرذيلة! أيُّها الجيلُ المتبذِّلُ! أيّتُها السائراتُ وأنتنَّ عارياتٌ تعرضنَ أجسادكنَّ التي ستأكلُها الديدانُ وأنتنَّ ضجيعات قبوركنَّ الرهيبة! ألا فاعلَمنَ أنَّ الله يمهلُ ولكنَّهُ لا يُهمل. ومن له أُذُنان للسَّمع فليسْمَع. وكلُّ آتٍ قريب.
غناءٌ ورَقصٌ على قارعةِ الطريق
وبينما كنتُ أسيرُ، سمعتُ موسيقى صاخبةً تضجّ، ورأيتُ المئاتَ يتسابقون حيثُ الأنغامُ تتصاعد، فتبعتُهم. وإذا بثلاثةِ أشخاصٍ من هاواي يوقِّعون على آلاتِ الطربِ هذه الأنغام.
وعلى الأثرِ، برزَتْ فتياتٌ من هاواي وهُنَّ بعمر الورود، والسُمرةُ تلفحُ وجوههَنَّ وأجسادهنَّ، وقد تزيَّنَ بالأزاهيرِ المضفورة بشعورهنَّ، وبالعقود مدلاّةً حولَ أعناقَهنَّ، وابتدأنَ يرقصنَ رقَصَاتٍ فنّيةٍ جميلة. وتعاقبَ غيرهنَّ في أداءِ هذه الرقصاتِ.
وكان يعلو تصفيقُ الجمهورِ المحتشدِ لمشاهدةِ الرقصِ الفنّي البديع. إنَّ هذه الرقصاتِ التي يشاهدُها كلُّ من تُتاح له فرصةَ المجيء لهاواي هي الطابع المميّزُ لهذه الجزر الفاتنة. فالرقصُ في هاواي هو طابعُها الخاص. فعندما نقولُ إيران، يتبادرُ إلى ذِهْنِنَا فوراً سجَّادُها العجميُّ الثمين، فهو طابعُها المميّز. وهكذا، عندما نقولُ جزر هاواي يتبادرُ إلى ذِهْنِنَا رقصاتُ فتياتِها البديعة وغناؤهنَّ المُمتِع.
غِناءٌ وعَزْفٌ في حديقةٍ عامّة
استمرّتْ جولتي، سيراً على الأقدام، أربع ساعاتٍ كاملة، حتّى كلَّتْ قدماي من التجوال، فجلستُ على أحدِ المقاعدِ وأنا مُتعبٌ؛ ثمّ استقلّيت سيّارةً عدتُ بها إلى الفندق. وإذا بالدكتور خبصا ينتظرني. وبعدَ راحةٍ تامَّةٍ في الفندق، نزلنا على أملِ أنْ أصطحبَهُ ليُشاهِدَ متاجرَ المدينة. وبينما كنّا سائرينَ، والساعةُ إذ ذاكَ الخامسةُ والنصف، شاهدنا حشداً كبيراً من النساءِ والرجالِ الأمريكيين وقد طوَّقَتْ عقودُ الأزهارِ أعناقَهُم جميعاً. وسألنا عن سبب هذا التجمهُرِ، فقيل لنا : هنالكَ حفلةُ رقصٍ هاواويَّة ضخمةٌ ستُقامُ في الحديقة، ثمَّ في مسرحٍ ضخم.
ابتعْنَا تذكرتين ثمنُ كلٍّ منهُما أحدَ عشرَ دولاراً أمريكيّاً- أي 36 ليرة لبنانيّة. وسرْنَا مع السائرين، كلُّ اثنين معاً، صفّاً طويلاً. واقتربتْ فتاةٌ سمراءٌ فارعةُ الطولِ هاواويّة، ووضعَتْ حولَ عُنقي عقداً من الأزهار، وقبَّلتْني، وهذه عادةٌ مُتَّبَعَةٌ مع الجميعِ في هاواي. ثمَّ ألبستْ الدكتور خبصا عقداً من الأزهار طوَّقَتْ به عُنُقَه، وقبَّلَتْه. وفعلتْ مع جميعِ الرجالِ هكذا. وكان شابٌّ من هاواي يضع عقودَ الأزهارِ في أعناقِ النساء، ويُقبِّلُ كُلاًّ منهنَّ.
ولمّا اكتملَ الحشدُ في حديقةٍ متراميةِ الأطراف، جلسَ الجميعُ على الكلإ الأخضر. وتحتَ شجرةٍ عُلِّقَتْ بها مئاتُ المصابيحِ الكهربائيَّة المضيئةِ المختلفةِ الألوان، كان يقفُ على منصَّةٍ رجلان وامرأتان من الوطنّيين. وجعلوا يعزفون ألحاناً تعرفُها جُزُرُ الباسفيك الفاتنة، ويُطلقون أصواتَهُم بغناءٍ بديعٍ فيه جمالٌ وفتنة. واستمرَّ هذا العزفُ والغناءُ ساعةً كاملة، ثمَّ أعلنَ أحدُ المغنّين: أمّا الآن فإلى المسرحِ لتشاهدوا رقصَ هواي المُبدع. واندفعَ الجميعُ- وكان عددُهُم يُقدَّرُ بستمائة متفرِّجٍ ونيّف- نحو المسرحِ الذي لا يبعُدُ أكثرَ من ستِّين متراً عن الحديقة. وهو بناءٌ فخمٌ بطابقٍ واحد، وقُبَّتُه الضخمةُ مستديرة. وتتالتْ أفواجُ الداخلين. وكانت هنالك موائدُ مستطيلة، يستوعبُ كلٌّ منها عشرين شخصاً. والقاعة فسيحةٌ متراميةُ الأطراف.
وقد صُفَّتْ على المائدة صحافُ الطعام، ونثِرَتْ أنواعُ الفواكهِ كالموز والأناناس لمنْ يرغبُ بها. ولم أستطِب الموز، فضلاً عن أنَّ حجْمَه صغيرٌ كموزِ بلادِنا، وليس كالموزِ العجيبِ الضخامةِ والطولِ الذي كنتُ أبتاعُهُ في أوزاكا وكيوتو وطوكيو. وبأثناء الطعام، كُشِفَ السِتارُ عن المسرح، فإذا عليه فرقةُ موسيقى هاواويَّة وفتياتٌ تجمَّلتْ رؤوسُهنَّ بالورودِ والأزاهير، وازدادت أعناقُهنَّ بأطواقٍ من شتّى أزهارِ هاواي المشهورة.
وتضوَّعَ أريجُ هذه الأزهار فملأ القاعةَ الكبرى برائحتِهِ الذكية. وتعاقبتْ أنواعُ الرقصِ وأشكالُه، كما تنوَّعتْ الموسيقى بشتَّى أنغامِها العريقة في جزرِ الباسفيك السحريَّة.
وانتهى العرضُ المتعدِّدُ الأوجهِ في الساعة التاسعةِ ليلاً، فخرجَ الجميعُ أفواجاً أفواجاً. وكان العشراتُ من الفتياتِ عاريات، كما وصفتُهنَّ، وقد خلعنَ عذارَ الحياءِ عن وجوههنَّ. وصعدتُ أنا والدكتور خبصا إلى الفندقِ لنأخذَ قسطنَا من الراحة، بإنتظارِ فجرٍ جديد.
في 29آب 1969
وبهونولولو 28آب
جُزُر هونولولو
تناولتُ طعامَ الصباحِ مع الدكتور خبصا في الثامنةِ صباحاً، ثمَّ ذهبْنَا إلى شركةٍ قريبةٍ من فندقِنَا، وقطعنَا تذاكرَ بمبلغِ عشرين دولاراً أمريكيّاً لنقومَ بجولةٍ حولَ الجُزُرِ التسع بهونولولو. وصلَ الأوتوبيسُ في التاسعةِ والنصف، وكُنَّا ننتظرُه، فاستقلّيناهُ مع بعضِ السيّاح، وسارَ بنا إلى عدَّةِ فنادقَ بالمدينةِ ليُقلَّ الركَّابَ الراغبين بالجولة مثلنا. ولمّا اكتملَ عددُنا وامتلأتْ الحافلةُ بركّابها، سارتْ بنا حولَ الجزيرةِ التي سنجتازُها من طرفٍ إلى طرف، قاطعينَ مئة وستّين كيلومتراً في الذهابِ والإياب. وكنتُ أُشاهدُ المنازلَ الأمريكيَّة الجاهزة، وهي جميلةُ الهندسة، تملأُ الحقولَ الشاسعةِ من كِلا الجانبين، وأمامَ كلِّ منزلٍ حديقتهُ الفاتنة، والهدوءُ والسكون ضاربان أطنابَهما، فلا تسمعُ رِكزاً ولا إيقاعاً. وكانت الأزهارُ تملأُ تلكَ الأرجاء، وهي تتمايلُ مع الهواء بألوانِها الزرقاء، والحمراء، والليلكيَّة، والبيضاء، والصفراء، والمتعدَّدَةِ الألوان، فتُبْهَرُ العينُ وتُسرُّ لرؤيتِها. كما أنَّ أشجاراً باسقةً كانت مزهرةً، وألوانُها خلاَّبةٌ للغاية. وكانت روائحُ هذه الأزاهير منتشرة، تضوعُ فتُفعمُ الأجواءَ عبَقاً عطريّاً يُبهجُ النفس.
في معبدِ زِنْ بُوذَا اليابانيّ
واستمرَّتْ السيَّارةُ سائرةً بنا حتى وصلتْ أمامَ مبنى حديثٍ وهو معبدُ زِنْ بوذا ZEN BUDDHA على طريقةِ زِنْ اليابانيَّة. وقد أُسِّسَ هذا المعبدُ عام 1913، وجُدِّدَ بناؤه على الطراز العصري عام 1952. واسم المعبدِ الكاملِ هو: SOTO ZEN OF HAWAII
وقد دخلنَا فوجدنَاهُ فخماً، فيه مقاعدٌ وكراسيّ مثلما في كنائسِ المسيحيّين. وقد جلسْنَا نُصغي لإمرأةٍ يابانيَّةٍ قيّمةٍ على المعبد أَخَذَتْ تقصُّ علينا نشأةَ المعبدِ ونُبذةً عن حياةِ بوذا. وقد ابتعنْا بعضَ النشرات الموجودةِ هناك. وبعدما مكثنا حوالي رُبعِ الساعةِ عُدنَا إلى السيّارة.
ثَمَرتَا الأنَانَاس والبابَاي
كُنَّا نمرُّ أحياناً بغاباتٍ من الأشجارِ الباسقةِ الممتدَّةِ الفروع. وقد قدَّرتُ أنَّه يُمكنُ أن يتفيَّأ في ظلِّ شجرةٍ منها لا أقلّ من خمسمائة رجل. ففروعُها مديدة، واخضرارُها بديع، وهي كالمظلَّةِ عندما تفتحها لِتَقِي نفسَكَ المطَرَ المنهَمِر. كما أنَّنا مررَنا بمساحاتٍ شاسعةٍ مزروعةٍ بالأناناس ثمرة هونولولو المعروفة. وقد حدَّثَنا سائقُ السيّارة- الذي كان يُدلي للسيّاحِ بمعلوماتٍ عن جُزرِ هونولولو وحاصلاتها والحياة فيها، لأنَّ هؤلاء السائقين يكونون بالوقت نفسَه أدّلاء للسيّاحِ الذين يقلّونَهُم بسيّاراتِهم، وهم يدرسون هذه المعلومات بدقَّةٍ قبلَ أن يُسمَحَ لهم بقيادةِ سيّارات السيّاح- حدَّثنا عن شجرة الأناناس بأنَّها تحملُ كلَّ سنةٍ حبَّةٍ واحدةٍ فقط، وهي تعيشُ أربعَ سنوات تُعطي فيها أربعَ حبّات، أي كلُّ عام حبَّة. والأناناس نبتتُه كالبطيِّخ تماماً، وهي تملأُ مساحات شاسعة، وأثمارُها على الأرض. وتُباعُ في هونولولو بأبخسِ الأثمانِ لكثرتِها.
أمّا ثمرةُ البابابي فشكلُها كالبطّيخ الأصفر تماماً، وأشجارُها مرتفعة، وهي حُلوةُ المذاق، وتُحلَّى، لمن يرغبُ، بالسكَّر، وأثمانُها بهونولولو بخسة. وكانت السيَّارةُ تسيرُ بنا، والجمالُ يُحيطُنا في كلِّ بقعةٍ من بقاعِ هذه الجُزُرِ الخلاَّبة. وظهرَ البحرُ فجأةً أمامنا. وكانت أمواجُ شواطئهِ تزحفُ لتُقَبِّلَ أقدامَ الغابات الفاتنة والنخيل السامق، وفتياتُ هاواي يهزجنَ ويرقصنَ وقد تزيَّنَ بأجملِ أزهارِ بلادهنَّ السخيَّة بجمالِهَا الذي هو أشبهُ بالأساطير!
أجْمَلُ مَكانٍ شَاهَدْتُه
وأخيراً، وصلنَا إلى كنيسةٍ لطائفةِ المورمون بُنِيَتْ في أجملِ بقعةٍ من بقاعِ هذه الجزيرة السحرية. استقبلتنا نافورةُ مياهٍ رائعةٍ قامتْ في وسطِها غابةٌ لم ترَ العينُ أجملَ من أشجارِهَا وأزهارها وأطيارِها المغرِّدَة. وما عَتَّمتُ أن صحتُ قائلاً إنَّها جنَّةُ الفردوسِ المفقود! كان حُسنُ هذا المكان أعطم من أن يصفَه قلم. فأنتَ تشعرُ حالما تراه بطمأنينة نفسٍ تامَّة. فالجمالُ يُحيطُ بك، ويأسرُكَ بروعته. والإخضرارُ الذي يملأُ المكان يبهركَ بفتنتِهِ، وسحرهُ يخلبُ لبَّكَ فتُبهَت. ويدُ الصناعةِ أبدعتْ تخطيطَ وتنسيقَ كلَّ ما يُحيطُ بهذه البقعةِ الفردوسيَّة فأصبحتْ هي والجنّةُ سواء!
لقد قرأتُ عن تاجِ محلّ في الهند، وقد قيلَ إنَّه أجملُ مكانٍ يُمكنُ أن تراهُ العينُ في عالمنا. أنا لم أرَه لأستطيعَ أن أحكم، ولكنَّني أظنُّ أنَّ هذا المكان هو أروع من تاجِ محلّ وأبهى وأوقع في النفس، وسأزور الهند خصيصاً لأذهبَ إلى تاجِ محلّ فأقارنَ بين المكانين.
أمَّا معبدُ المورمون هذا فقد بُني سنة 1919. والعام الحالي هو بمنزلة يوبيل ذهبيّ له، إذ مرَّ على بنائه خمسون سنة.
تَيَّارٌ هوائيٌّ مُدْهِش
ظلَّتْ السيَّارةُ تسيرُ بنا بين هذهِ الفراديس التي لا نهايةََ لها حتَّى وصلتُ إلى مكانٍ فيه بناءٌ جميلٌ أعلمنَا السائقُ بأنَّهُ معطم، وبإمكاننَا النزول وتناولُ الطعامِ فيه لمدَّة ساعة، وبعدَها نكمِلُ الرحلةَ. ففعلنَا، وكان المطعمُ من نوع (اخدمْ نفسَك)، أي يأخذُ المرءُ صينيّة، ويتقدَّمُ واضعاً فيها أصنافَ الطعام التي يرغبُها، ويبقى سائراً حتى يصلَ إلى فتاةٍ تنظرُ ما انتخبَهُ من الأطعمة، وتُُعيّنُ له المبلغُ المتوجبُ دفعُه بنسبةِ الأنواعِ المنتخبة. وبعدما تناولنا الطعام، سارَ بنا الأوتوبيسُ، وبقيَ سائراً حتى بلغنَا مُنْعَطفاً منْحَدراً، وكان البحرُ أمامنا ممتدّاً إلى ما لا نهاية. ووقفتْ السيّارةُ، وقال سائقُها: هذا المكانُ فيه تيّارٌ هوائيٌّ أبديُّ الإستمرار، والجميعُ يقصدونه لمشاهدةِ تيّار الهواء العظيم.
ونزلنَا، وكان الدكتور خبصا قد سبقني بالنزول، فما وطئتْ قدَمَاه الأرضَ حتى شاهدتُه يبذلُ غايةَ جُهدِهِ كي لا يقعَ أرضاً، لعنفِ التيّارِ الهوائيّ، فأسرعتُ بإمساكِه، وما كدتُ أفعلُ حتَّى كادَ الهواءُ يرفعُني للعلاء، فحاولتُ جُهدي حتَّى استطعتُ ترسيخَ قدميَّ جيداً خوفاً من رفعِهِ لي في الفضاء!
وكان عددٌ من الشُبَّانِ يتلاعبُ بِهِم الهواءُ، ويرفعُهُم ثمّ يخفضُهم، وهم يقاومون مجراه. وقد أخذْنَا لهُم مشهداً سينمائيّاً سيكونُ مِنَ الطرافةِ بمكانٍ. وتابعنَا مسيرنَا، ونحن نُعاينُ جبالَ هذه الجزرِ الشمّاءِ الجرداء، بينمَا سهولُها في غايةِ الخصب والنماء. وأخيراً، وصلتْ السيّارةُ إلى المدينةِ وكانت الساعةُ الرابعةَ تماماً.
عَودَتي إلى متَاجر هونولولو
أوقفتُ السيّارةَ قبلَ أن تبلغَ بنا الفندقَ بمسافةٍ طويلة. وما ذلك إلاَّ لكي أذهبَ إلى المتاجر، وأُشاهدَ عجائبَ ما تحويه وغرائبَ ما تُخفيه، إذ لم يكفِني تجوالي فيها يومَ أمس.
أمّا خبصا فقد أكملَ سيرَهُ إلى الفندق، لأنَّهُ يعلمُ بأنَّني لا آكلُّ ولا أملُّ من السير لمشاهدةِ كلِّ شيء، وهذا يُضنيه. وقد مكثتُ ثلاثَ ساعاتٍ كاملةٍ وأنا أتنقّلُ من مكانٍ إلى مكان، ومِن متجرٍ إلى آخر. ثم عدتُ في الساعةِ السابعة، سيراً على الأقدامِ مع بُعدِ المسافةِ عن الفندق.
وصلتُ إلى الفندقِ في الساعةِ الآنفةِ الذكر، فإذا الدكتور خبصا ينتظرُني في الغرفةِ ويقولُ لي: إنَّ وجهَكَ شديدُ الاحمرار. فأجبتُهُ : من سيري ثلاثَ ساعاتٍ كاملةٍ لم آخذْ فيها دقيقةً راحةً لنفسي.
تَعَشَّيْنا وتمشَّيْنا
وهبطتُ مع الدكتور خبصا إلى مطعمِ (اخدم نفسَك) الذي تناولنَا فيهِ طعامَ الصباحِ، ثم عرَّجنَا إلى محلٍّ مختصٍّ ببيعِ المرطَّبات، وتناوَلنا كلٌّ منَّا قدحاً من البوظة. ثمّ سرنَا على أقدامِنا ناحيةَ المدينة، وهي تقعُ في الجِهة المعاكسةِ لمكانِ المخازنِ الذي أمضيتُ فيه ثلاثَ ساعاتٍ متنقّلاً بين متاجِرِه، أي منَ الساعةِ الرابعةِ حتى السابعة. ومكثنَا سائرين ساعةً كاملة، ونحنُ ندخلُ إلى متجرٍ لنغادرَهُ وندخُلَ سواه. إنَّ متاجرَ مدينةِ هونولولو فخمة، وبعضُها مفروشٌ بالسجّاد، مع أنَّ طولَه يبلغُ الثمانين متراً، بعرض أربعين. وهذه المتاجر في غاية الأناقة، ولكنَّ السلعَ فيها باهظةُ الأثمانِ. فقد ابتعتُ اليومَ مشطاً بمبلغ ثلاثِ ليراتٍ لبنانيّة، بينمَا يُباعُ هو نفسُهُ في بيروت بخمسة وعشرين قرشاً لبنانيّاً، والفرقُ بين السعرين جسيم. وبعدما كلَّتْ أقدامُنا من المسير، رجعنَا إلى الفندقِ بالتاكسي، وكانتْ الساعةُ التاسعةَ والنصفِ ليلاً.
ولما كُنَّا منهوكي القوى استسلمنَا للرقادِ حالَ وصولنا.
في 30آب 1969
وفي هونولولو 29آب 1969
في جنَّة العصافير
كانتْ يقظتي في الساعةِ الثالثة والنصفِ بعدَ منتصفِ الليل، ولم أعُدْ أستطيعُ النوم. وفي الساعةِ الثامنة النصف، ذهبتُ والدكتور خبصا إلى دائرةِ البريد، وأرسلنَا إلى الدكتور فريد رزمةً مسجّلةً فيها بعضَ القِطَعِ الصدفيّة.
ثمَّ انتظرنَا الأوتوبيس، فقدِم في التاسعةِ والنصف، فاستقلّيناهُ وذهبنَا إلى مكانٍ يبعدُ عن هونولولو ثلثَ ساعةٍ واسمه (جنَّةُ العصافير)، وهو مكانٌ تُحيطُهُ جبالٌ، وتكتنِفُهُ من جهاتِهِ كافّةً أشجارٌ كثيفة، ويجري فيه نهرٌ صيفاً وشتاءً. وحالَ وصولنا، أرشدَتْنَا الموظَّفةُ إلى الموضعِ الذي يجبُ أن نسيرَ فيه، وهو ممرٌّ طويلٌ يُشرفُ على أمكنةٍ تهبطُ فيها تدريجيّاً في ممرّاتٍ عديدة، وأنتَ تُشاهدُ، بأثناءِ سَيرِك، الطيورَ وقد سُيِّجَتْ أقفاصُها العظيمةُ الإتِّساع بشريطٍ ناعم الخروق.
كانت الببّغاواتُ بأنواعِها المتعدِّدَة، وألوانِها المختلفة، تطيرُ قادمةً إلينا، وتحطُّ على أكتافِنا ورؤوسِنا، لأنَّ قفصَ الببَّغاوات لا يحدُّهُ شريطٌ من ناحيتِه العُليا، ولكونِها أليفة، إذْ بإمكان الزائرينَ أن يقدِّموا لها حبوباً يبتاعونَها من مكانٍ خاصٍّ هناك. وبقينا هابطين من ممرٍّ إلى آخر، ونحنُ نُشاهدُ الطيورَ في خلال سيرنَا، حتى بلغنَا الحديقة. وإذا بمجموعةٍ كبيرةٍ من المظلاّت. فأخذَ كلٌّ مِنَّا مظلّةً لتقيهِ الأمطار. ذلك بأنَّه يبدو أنَّ المكان المنتخبَ لحفظِ الطيور، والمحاطُ بغاباتٍ كثيفةٍ وبسلسلةٍ من الجبال، تنهمرُ الأمطارُ فيه غالباً. وفعلاً، فإنَّ السماءَ أمطرت، فوقيْنا أنفُسَنَا بالمظلاَّت ونحنُ سائرون. وقد شاهدنَا البطَّ والوزَّ في بركه، وطائرُ الفلمنك وهو يتخطَّرُ في سيرِهِ زرافات زرافات. ثم شاهدنَا، في قفصٍ عظيمِ الإتِّساع، قردَيْن أسودَي اللون وهما يقومان بحركاتٍ قرديّةٍ عجيبة.
ثمَّ تخلّلنا غابةً موحشةً كثيفةَ الأشجارِ متشابكةَ الأغصان. ولو لم تقمْ إدارةُ المكان بشقّ طريقٍ في وسط هذه الغابة لكان من العسير جدّاً أن يستطيعَ المرءُ السير فيها.
وفي خلالِ مسيرنا، كان وقعُ المطرِ وخريرُ النهرِ وهو يجري ملتطماً بالحصى يؤلّفان لحناً غريباً. ثمّ دخلنا إلى مبنى كبيرٍ شبيهٍ بالمُدرَّج (أمفيتياتر)، وقد صُفَّتْ فيه مقاعدُ امتلأتْ بالسيّاح الوافدين لزيارة (جنَّة العصافير). وكان في هذا المبنى عشرة ببَّغاوات تقفُ على أوتادٍ كبيرةٍ غُرسَتْ في فسحةٍ رحبةٍ من البناء. وما عتَّمَ أن ظهرَ شخصٌ وأعلن أنَّه سيُجري أمامنَا عرضاً. بدأ العرضُ بأنْ أخذَ أحدُ الببَّغاوات يسحبُ حبلاً عُلِّقَ في طرفِهِ الآخر علمٌ أمريكيّ صغير. فارتفعَ العلمُ للأعلى، وصفَّقَ الناسُ لهذا الببّغاء الذكيّ. ثمَّ امتطى ببّغاءٌ آخرٌ درّاجةً صغيرةً وسارَ بها على الحبل. وقرعَ آخرُ الجرسَ سبعَ مرّاتٍ بنسبةِ طلبِ مدرِّبه منه. وإنْ يطلبْ منه أن يقرعَه أربعَ مرّاتٍ يقرعُه أربعاً. واستمرَّ العرضُ حوالي الساعة، ثمَّ قفلنَا عائدينَ إلى هونولولو.
إلى مُتْحَفِ الشَّمع
أنزلنَا حقائبَنَا من الفُندقِ لأنَّنَا سنسافرُ في التاسعةِ ليلاً إلى سان فرنسِسكو. وقدْ طالبتنا إدارةُ الفُندقِ بأن نُخلي الغرفةَ ليشغَلَها سوانا. فوضعنَا حقائبَنَا في غُرفةٍ خاصَّةٍ بالمحفوظاتِ ليسلّمونا إيّاها في التاسعةِ ليلاً. وبقيَ الدكتور خبصا في باحةِ الفندق. أمّا أنا فذهبتُ إلى متاجرِ المدينة وهي غيرُ المخازن التي قصدتُها ليلةَ البارحة.
وقد ذهبتُ سيراً على الأقدام، في الساعةِ الثانيةِ بعدَ الظُهر، وسرتُ نحوَ نصفِ ساعةٍ حتّى بلغتُ المدينة. فدخلتُ العشرات من متاجرِها مُستَطْلعاً. وقد رأيتُ لافتةً تُشيرُ إلى مُتحفِ الشمعِ فولجتُه.
إنَّ هذا المتحفَ عظيمٌ. فهو يُريكَ مراحلَ الإستيلاء على هونولولو. فأنتَ ترى جورج كوك يُقدِّمُ سيفاً إلى مَلكِ هونولولو، ثمَّ ترى الملكَ نفسَهُ وهو يحتضرُ وزوجتُه تقفُ بقُربِه.
والتماثيلُ الشمعيّةُ آيةٌ في البراعة، فأنتَ تحسبُها أشخاصاً حيّة لا تماثيل، لدقَّتها.
خرجتُ من متحفِ الشمعِ وأنا مسرورٌ لمشاهدتي إياه، وتابعتُ تجوالي أربعَ ساعاتٍ كاملة.
وقد عدتُ في الساعة السادسةِ وأنا منهوكُ القوى، مُتْعَتُ القدَمَين، فوجدتُ الدكتور خبصا جالساً على أحدِ المقاعدِ وهو ينتظرني.